يقول صمويل بيكيت " لا شيء أكثر واقعية من اللاشئ ولا شيء جوهريا كاللاجوهري ".. انطلاقا من هذه الجملة سنتعمق في سمات وخصائص مسرح العبث وأهم التقنيات في كتابة هذا النوع من المسرح، وستكون مسرحية " في انتظار جودو " لبيكيت نموذجا لهذا التيار.
مصطلح "عبثي" له جذور في اللاتينية، فـ "عبث" تعني "كل ما هو مخالف للعقل" أو "غير متناغم"، ويشرح المصطلح مفهوم الكلمة الحديثة التي تقابل تحديد الطبيعة غير العقلانية وغير المتناسقة للحياة اليومية، أما مسرح العبث فهو مصطلح يستخدم للإشارة إلى مسرحيات الكتابة العبثية التي تم تأليفها بشكل أساسي من قبل كتاب مسرحيين أوروبيين في نهاية القرن العشرين ويستخدم أيضًا في أسلوب المسرح الذي تطور من أعمالهم، وقد ابتكر المصطلح الناقد الأدبي مارتن إيسلين في مقالته عام 1960 بعنوان "مسرح العبث"، وربط إيسلين هذه المسرحيات المختارة بناءً على الموضوع العام للعبثية، على غرار الطريقة التي استخدم بها كامو المصطلح في مقالته عام 1942 بعنوان "أسطورة سيزيف".
نمط أو تيار مسرح العبث ظهر في القرن العشرين مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، كجزء من رد فعل ضد النزاعات والحروب، حيث بدأ الكتاب في التعبير عن مشاعر الاغتراب واللاجدوى، وفي هذا المسرح تُعالج غالباً مواضيع عبثية الإنسان والحياة، ويعود أصل هذه الحركة المسرحية في الدرجة الأولى إلى تهاوي الحركة الإنسانية المدافعة عن قيم الغرب وعقيدة التقدم، فعبثية الظروف والأحوال وتفكيك اللغة نفسها جعلا من هذا النمط المسرحي حركة مسرحية مستقلة. وفي هذا المسرح يبدو الوجود بلا معنى ويظهر لا معقولية أي أمل في التواصل والتفاهم حيث تضل الإنسانية طريقها، ومن أشهر ممثلي هذا المسرح صموئيل بيكيت وأوجين يونسكو وأداموف وجونيه وغيرهم.
مسرح العبث مسرح يقلب الشكل المسرحي الذي نتوقعه سواء علي مستوي الحوار أو علي مستوي البناء الدرامي للنص، أو علي شكل الشخصيات في النص فشخصيات مسرح العبث غريبة وغير مألوفة وذات دوافع غريبة، غالبًا ما يتعذر التعرف على المشهد وفي بعض الأحيان لا يتغير، ويبدو الحوار بلا معنى، ويمكن أن تكون المسرحيات مأساوية وكوميدية بطبيعتها وهي سمة من سمات نوع الكوميديا المأساوية في المسرح، حيث يتم تصوير الشخصيات والأحداث بشكل يتسم بالتناقض والفوضى.
في انتظار جودو
وفي كتاب " مدخل إلي تحليل النص المسرحي " للدكتور محمد سمير الخطيب يقول : " يعتمد مسرح العبث على مبدأ الصدمة وأثارة الدهشة للمتلقي، وهو تمرد على البناء الدرامي التقليدي المتعارف عليه، لذلك كان مسرح العبث مسرح المواقف أو مسرح الصور فالكاتب يقدم صور شعرية بصرية ويستخدم الأفعال المرئية والحركية والصوتية.
ولو تعمقنا أكثر في سمات مسرح العبث، فسنجد أن اللغة المسرحية لا تكون وسيلة اتصال متعارف عليها، بل شن الهجوم على اللغة وعلى أنها لا يمكن الاعتماد عليها، من أجل الذهاب إلى مسرح يذهب ما وراء اللغة، و الحوار في المسرح لا تحكمه المنطقية بل أقرب إلى المونولجات الطويلة الداخلية، ويفقد المنطقية والموضوعية، وكان هذا رد فعل لفشل اللغة في التواصل الإنساني، ومسرح العبث لا تحكمه المنطقية في أفعال شخصياته.
ومن سمات هذا التيار أيضا وهذا النوع من المسرح سيطرة الرمز، والاهتمام بالعناصر المرئية مثل الديكور، واللجوء إلى الحركة الصامتة البانتومايم، والمزج بين التراجيديا والكوميديا (التراجيكوميديا)، فكانت تستخدم الكوميديا للوصول إلى عقل المتفرج، كما أن التراجيديا متعلقة بالواقع والكون والحقائق من الحياة أو الموت أما الكوميديا تتصل بالمسائل الذاتية التي تتصل بالإنسان ومشاعره. ولا تحتوي المسرحية على سمات البطولة كالبطل في المسرحيات الكلاسيكية أو الرومانسية أو الواقعية.
مسرحية " في انتظار جودو" لصمويل بيكيت هي نموذج أمثل لتطبيق كل سمات هذا التيار، فالمسرحية تدور حول شخصيتين، فلاديمير، واسترجون، وهما ينتظران شخصية غامضة تدعى "جودو" ، لكن هذا الجودو لا يظهر أبدًا، ويركز العمل على حوار الشخصيتين، والروتين، والعبثية في انتظار شيء قد لا يأتي أبدًا، مما يعكس انعدام المعنى في الحياة، وتعكس الشخصيات هنا في هذا النص الفوضى وفقدان المعنى، وتظهر الرمزية متمثلة في محور الانتظار نفسه .

صمويل بيكيت
وفيما يخص الحوار بالتحديد في هذه المسرحية سنجده يزيد من شعور العدم، حيث يتكرر الكلام بدون تحقيق أي تقدم، فاللغة التي يستخدمها بيكيت تكون في بعض الأحيان سخيفة أو غير منطقية، مما يعكس العبثية ولنتأمل مثلا هذا الحوار كنموذج حيث بدأ الحوار بسؤال ثم تفرع لموضوع آخر :
استراجون : ( يلتفت نحو فلاديمير ) فلنذهب من هنا
فلاديمير : لا نستطيع
استرجون : لماذا ؟
فلاديمير: لأننا ننتظر جودو.
استرجون : صحيح (صمت) هل أنت متأكد أن هذا هو المكان؟
فلاديمير :ماذا ؟
استرجون : المكان الذي علينا أن ننتظر فيه .
فلاديمير: قال قرب الشجرة (ينظران إلى الشجرة) هل ترى
سواها؟
استرجون: ما نوع هذه الشجرة؟
فلاديمير : لا أعرف - كأنها صفصافة .
استرجون: أين أوراقها ؟
فلاديمير: يبدو أنها ميتة .
فهذه الاقتباسات تعكس روح الانتظار وعدم اليقين التي تسود المسرحية، ويظهر الحوار عدم قدرة الشخصيات على اتخاذ خطوات فعلية أو تغيير وضعهم، مما يعكس عمق القضايا الفلسفية التي تتناولها المسرحية.
والشخصيات في المسرحية تفتقر إلى الهوية المحددة ولديها طبيعة متناقضة، ويتسم كل من فلاديمير وأستراجون بالتناقض بين الرغبة في الفعل والاكتئاب الناتج عن عدم القدرة على القيام بذلك ويظهر ذلك في هذا الجزء من حوار المسرحية أيضا :
فلاديمير : ( وهو يلوك ) طرحت عليك سؤالا.
فلاديمير : آه !
استراجون : هل أجبتني ؟
فلاديمير : هل الجزرة طيبة ؟
استراجون: حلوة.
فلاديمير : أحسن ..أحسن ( صمت ) ماذا تريد أن تعرف ؟
استرجون : نسيت (يمضغ) هذا ما يزعجني (ينظر إلى الجزرة بتقدير، يديرها في الهواء بأطراف أصابعه) إن جزرتك لذيذة (يمص طرف الجزرة وهو مستغرق في التفكير) لحظة، تذكرت، ( يقضم قطعة )
نلاحظ أيضا أن الحوار يتكرر بين الشخصيات، مما يعكس شعوراً بالركود واليأس، فمثلاً، المشاهد التي يتحدث فيها فلاديمير وأستراجون عن الانتظار ومرور الوقت، تظهر كيف أن الانتظار أصبح جزءًا من حياتهم اليومية، والحوار يتكرر بشكل كبير، ويتناول مواضيع تافهة وغير منطقية، مثل ارتداء أستراجون حذاءه وتبادل الصلاة، مما يعكس عبثية وجودهم.
ونلاحظ أيضا أن الزمان والمكان لهما تأثير كبير فالمكان ثابت وهو تحت شجرة صغيرة، مما يخلق شعوراً بالملل والركود، كما أن الزمن غير محدد، مما يعكس حالة من الانفصال عن الواقع، وشخصية " جودو " هنا تمثل الأمل والتوقعات أو ربما كائن غير موجود، يعكس حالة الإنسان في انتظار شيء قد لا يتحقق، وقد يُفهم جودو كرمز للمعنى، الإيمان، أو الإنجاز في الحياة، بينما الانتظار يجسد الركود والعبث، وهنا نجد الرمزية في النص وهي من أهم سمات مسرح العبث .
مسرح العبث
مسرحية " في انتظار جودو" تتجاوز كونها مجرد مسرحية، إذ تعبر عن الحقيقة الصعبة للحياة البشرية من خلال تقنيات مسرح العبث، ويقدم بيكيت رؤية عميقة ومعقدة عن الوجود، مما يدفع الجمهور للتفكير في معاني الحياة، والزمن، والمكان، ومعاني الانتظار، فالمسرحية تثير الأسئلة بدلاً من تقديم الإجابات، مما يجعلها تجربة فكرية ومثيرة للتأمل، فجودو يمثل الرمز الغائب، الذي ينتظرانه، ويمثل هذا الفقدان أو عدم الوصول إلى الأهداف والطموحات في الحياة، وجودو يجسد الأمل، حتى لو كان وهمياً.
النص يحمل الكثير من المفارقات وهي سمة مميزة لمسرح العبث وتتجلي هنا في المفارقة في الأفعال، فهناك مشاهد مثيرة للسخرية، حيث التلاعب بالزمان والمكان يجعل الأحداث غير متوقعة، ويعكس كيفية عجز الشخصيات عن تحقيق أي تقدم أو إنجاز، فلاديمير وأستراجون في حالة مستمرة من السخرية وخيبة الأمل، مما يعكس التوتر بين الرغبة في الفعل والشعور بالعجز، وعلاقتهما تُظهر الاعتماد المتبادل في مواجهة العبث وتحديات الحياة، ويظهر شخصيتان إضافيتان من حين لآخر، هما لاكي وبوزو، وهما تعكسان جوانب مختلفة من المواقف والوجود.
وبنظرة تأملية لكل شخصية في تلك المسرحية سنجد أيضا أن فلاديمير هو الشخص الأكثر عقلانية بين الشخصيتين، ويحاول التفكير في الأمور، ولكنه متشائم، ويظهر دائما تحذيراته حول الأمل واليأس، ولكنه يتميز بخفة الظل، ويحمل عبء العدم، وشخصيته تعكس الصراع بين انتظاره لجودو وبين إدراك عدم وجود معنى لهذا الانتظار، أما أستراجون فهو يعبرعن الضعف أكثر من فلاديمير، ويتسم بالسذاجة وأحيانًا يكون مهووسًا بالمواقف البسيطة، ويمثل الجانب الإنساني الأعمق، كفرد يعاني من الضغوطات اليومية، ويميل إلى الاستسلام ويفقد الأمل بمرور الوقت، ولكنه يظهر أيضًا لحظات من الفرح والمزاح، فالمسرحية تعبر عن كيفية تحمل الإنسان للعبث واللاجدوى في حياته اليومية.
الانتظار هنا من باب الاستسلام للزمن، أو بالأحرى من باب جعل هذا الزمن الخاوي قابلاً لأن يعاش أو يسكن، فهذا الانتظار في انتظار جودو ذريعة لشيء آخر هو كيف نمرر الزمن عندما يحاصرنا اللامعنى اللا تاريخ، وعندما نكون عاجزين حتى عن الانتحار، حيث يفشل فلاديمير واسترجون في الانتحار).

مسرح العبث
شخصيات بيكيت في هذه المسرحية شخصيات ميتافيزيقية والبعض يعتبرها مسرحية دينية في عمقها، تعبر عن تساؤلات إزاء المصير الإنساني والكوني وعزلة هذا الإنسان في هذه الصحراء اللامحدودة من اللاشيء، والبعض يربط فكرة انتظار «جودو» بقلق غيبي.. و«جودو»، يعتبر البعض أنها كلمة مشتقة من (GOD) بالإنكليزية التي تعني الله والبعض الآخر ينفي هذا الربط بالغيب ويربط كلمة جودو بـGodillot أو الحذاء الضخم حذاء استرجون في التفسير الأول يلتقي بيكيت الفلسفة النيتشوية عن الله، وكذلك الفلسفة الوجودية هيدغر، سارتر وكامو .. والتفسير الآخر، يتجه إلى تجريد المسرحية من القول الذهني أو الفلسفي، وتالياً تجريدها من روائية القول، ورمزيته ودلالاته حتى الاجتماعية من خلال العلاقات القائمة بين بوزو ولاكي من جهة وبين استرجون وفلاديمير من جهة أخرى، بيكيت الذي كان يرعبه ربط مسرحيته بالأفكار والتأويل المحددة كان من الرأي الثاني .
المراجع:
-1- إبراهيم حمادة طبيعة الدراما، دار المعارف، بات
-2 معجم المصطلحات الدرامية، مكتبة الأنجلو، بات
3- رشاد رشدي : فن كتابة المسرحية، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1986
4- مجيد حميد الجبوري البنية الداخلية للمسرحية، منشورات ضفاف 2013
5- نبيل راغب موسوعة النظرية الأدبية الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان القاهرة، 2003