جمال عبد الناصر يكتب: الحب حين يحكمه الخيال ويحول القبح لجمال من وحي (حلم ليلة صيف)

 
كتب : جمال عبد الناصر

 

تُعد مسرحية "حلم ليلة صيف" واحدة من أكثر النصوص الكوميدية التي قدّمها وليم شكسبير ثراءً على المستويين الفلسفي والجمالي، فهي لا تقتصر على سرد حكاية عاطفية، بل تُقدّم رؤية متكاملة عن الحب كقوة عمياء، مرتبطة بالخيال أكثر مما ترتبط بالمنطق، ومرتبطة بالسحر والوهم أكثر مما ترتبط بالقانون والواقع.

منذ كلمات هيلينا في مطلع المسرحية ندرك أن الكاتب يوجّهنا إلى فهم الحب باعتباره عاطفة لا تُدرك بالعين، وإنما بالذهن، إذ تقول إن العاشق يبصر لا بالعين ولكن بالفكر، وإن الحب أعمى لا يرى الاختلافات، وهذا المونولوج ليس مجرد شكوى من هيلينا، بل هو بمثابة بيان فلسفي يلخص رؤية المؤلف إلى موضوع الحب، ويهيئ المتلقي لتجارب الشخصيات اللاحقة داخل الغابة.

في هذا العالم المزدوج، بين مدينة أثينا بوصفها فضاء النظام والقانون، والغابة بوصفها فضاء السحر والخيال، تتكشف التناقضات، ففي أثينا يفرض القانون قراراته على الأفراد، وتظل العواطف مكبلة بقيود المجتمع والأبوة والسلطة، أما في الغابة، حيث يحكم الليل وتنتشر قوى خارقة تتجسد في السحر وزهرة الحب، فإن الإدراك البشري يتشوّه، وتتحوّل البصيرة إلى انعكاس لرغبات مضطربة وصور خيالية، وهناك يسقط ليساندر وديمتريوس في حب متبدّل بفعل السحر، وتقع تيتانيا ملكة الجان في غرام بوتوم وقد مُسخ رأسه رأس حمار، فيتحوّل القبح إلى جمال، ويغدو الوهم حقيقة نافذة.

 

بهذا المشهد الساخر الممزوج بالسحر، يضعنا شكسبير أمام فكرة أن الحب لا تحكمه قواعد ثابتة، بل هو نتاج للخيال، وأن الإنسان قد يُخدع برؤية مقلوبة، لكنه في الوقت نفسه يجد في هذا الخداع معنى إنسانيًّا عميقًا، الغابة إذن ليست مجرد مكان، بل هي رمز للاوعي الذي يُحرر الرغبات المكبوتة ويُعطيها حرية التجسد، فالليل هنا ليس خلفية للحدث فحسب، بل عنصر درامي يضاعف من التباس الرؤية، ويجعل من الخيال قاعدة للوجود، حتى يُعيد الفجر الأمور إلى نصابها.

 

ويقدّم شكسبير في شخصية باك نموذجًا للوسيط بين عالمي البشر والجان، إنه روح ساخرة ماكرة تثير الفوضى وتعيد ترتيب العلاقات، وهو أيضًا الصوت الذي يواجه الجمهور في النهاية ليذكّرهم بأن ما شاهدوه ليس سوى حلم، وهذه النهاية تتركنا في منطقة ملتبسة بين الحقيقة والوهم، حيث يعود الظاهر إلى النظام بانتصار الحب المشروع وزواج العشاق، لكن أثر الحلم يظل حاضرًا في الذاكرة وكأنه يقول لنا إن الخيال قد لا يكون وهمًا عابرًا، بل تجربة تكشف عن جوهر الطبيعة الإنسانية.

 

ولعل من أعمق ما تطرحه المسرحية هو حضور المرأة بوصفها قوة واعية وفاعلة، فهيلينا تكشف بوعيها الفلسفي عن طبيعة الحب، وهرميا تواجه صراعها مع سلطة الأب وقانون المدينة بشجاعة، أما تيتانيا فتمثل صورة المرأة القوية التي لا تخشى الانجذاب حتى لو بدا في غير محله، وهؤلاء النسوة يكشفن عن تناقضات المجتمع الذكوري، ويثبتن أن الحب ليس تجربة الرجل وحده بل تجربة إنسانية شاملة.

 

كما أن إدخال مسرحية داخل المسرحية، من خلال عرض الحرفيين لـ "بيراموس وثيسبي"، يمثل مرايا نقدية ساخرة تسخر من المبالغات الرومانسية وتضع فكرة الحب والوفاء في صورة عبثية مضحكة، وكأن شكسبير يريد أن يقول إن التراجيديا ذاتها يمكن أن تُختزل إلى مادة للتهكم حين تُعرض في سياقٍ بسيط، فهذه اللعبة الميتا-مسرحية تكشف عن وعي شكسبير بطبيعة الفن ذاته، وعن قدرته على جعل الجمهور يضحك من وهم الحب وفي الوقت نفسه يتأمل خطورته.

في النهاية، تمنحنا "حلم ليلة صيف" رؤية شاملة عن الحب، فهو لا يُختزل في وفاء أو خيانة، ولا في جمال أو قبح، بل هو طاقة إنسانية عارمة قادرة على تحويل العالم في لحظة إلى مسرح من الفوضى والخيال، ومع أن النظام يعود ظاهريًا في النهاية، فإن المسرحية تُصر على أن الخيال يظل عنصرًا أساسيًا في صياغة تجربتنا الإنسانية، وأن الحب، مهما بدا طائشًا، هو المحرك الأعمق للأحلام التي تصنع وجودنا.

ولعل هذه القراءة لمسرحية حلم ليلة صيف لم تكن لتتبلور في هذا الشكل لولا أثر أستاذتي د. مها العوضي، التي منحتني مفاتيح التأمل العميق في النصوص الدرامية، وعلّمتني أن المسرح لا يُقرأ بصفته حكاية فحسب، بل بوصفه رؤى وصورًا ورموزًا تكشف عن الإنسان في أعمق حالاته، ولقد كان لجهدها العلمي وإخلاصها التربوي أثر بالغ في صقل رؤيتي النقدية، وفي تعليمي أن الحب والخيال والسحر في مسرح شكسبير ليست مجرد عناصر فنية، بل إشارات إلى طبيعة الوجود نفسه.

 


اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر