باسم فؤاد يكتب: «يوم الدين» رحلة فى العالم الآخر من الإنسانية

يوم الدين يوم الدين
 
لقطة واسعة لفضاء ملىء بالقمامة لا يرتاده إلا النباشون، يعلن بها المخرج أبو بكر شوقى بدء قصته فى رحلة يصطحب فيها مشاهديه إلى عالم ربما اجتنبوا الدخول فى تفاصيله لكنه نجح فى إقناعهم بالسير معه بإرادتهم.. ساحة لا يظهر فيها إلا مخلفات وبقايا بشر تلفظها العين، يظهر بعدها بطل الحدوتة "بشاى" المصاب بالجذام وكأنه أحد مخلفات هذا العالم الشائن، حالة بائسة يقابلها بطلنا بخفة ظل حين ينادى على أقرانه "يا عيانين"، ورضا نفسى ربما افتقده هؤلاء الجالسين فى القاعات أمام الشاشات، صحيح أن ملامحه المشوهة جعلته منبوذا ممن يقبعون على بعد أمتار عن هذه الساحة إلا أنه ما زال يحتفظ بروح الإنسان وسجيته التى لم تشوه بعد.
 
رحلة مخرجنا أبو بكر شوقى وبطله بشاى يبدأها من القاهرة إلى جنوب مصر وتحديدا محافظة قنا – موطنه الأصلى - ليبحث عن جذور عائلته، لم يعرف عنهم شيئا مذ كان طفلًا فى مستعمرة الجذام، ليكسر تلك العزلة التى فرضها عليها مجتمعه، يرافقه خلالها طفل يتيم "أوباما" على عربة يجرها ثالثهم "حربى" حمار بشاى، ليواجهوا ذلك العالم الذى لفظهم دون رحمة، وخلال الرحلة يأخذنا شوقى إلى عالم المنبوذين الذين يسكنون أسفل الكبارى ومنهم؛ قزم، وآخر بلا ساقين، وثالث مكسور الرقبة، يبدون منفرين للوهلة الأولى لكنهم أكثر تسامحا من الأسوياء شكلا المشوهين روحا، تلك الرحلة تضمنت محطات لم تكن ذات جدوى ولم يكن لها أى ميزة درامية، رغم ما تحمله رحلة بطلنا من عناصر تشويق كافية لدفع الأحداث إلى الأفضل دون أن يصاب المشاهد بشىء من الملل فى الكثير من المشاهد.
 
نجح أبو بكر شوقى فى تجربته الأولى، أن يجعل المشاهد جزءا من الحدث، محذرا إياه من أنه ليس بمعزل عن هذا العالم المنبوذ، فقد يأتى يوم ويصبح جزءا من هذا المجتمع، فعلى لسان أحد شخصياته - وكأن شوقى الذى يتحدث – إذ قال: "كلنا معرضين نبقى منبوذين" وقص عليهم كيف أصبح أحدهم بلا ساقين بعد حادث "تريلا" كلفه قدميه وصار جزءا من عالم المهمشين، ومع ذلك لم يخل السيناريو من مناطق بها عوار، ولنا ملاحظات أبرزها أن الحوار لم يكن مناسبا لخلفية الشخصيات وضحل ثقافتهم، وظهر وكأن شوقى هو الذى يتحدث فكانت الفجوة بين الشخصيات ولسانهم، بجانب غياب السلاسة الحوارية.
 
الفيلم مزيج من الروائية والوثائقية، أبطاله غير محترفين والأماكن حقيقية لكن تجسيدهم لم يخل من الأدائية فى أحيان كثيرة، فخرجت بعض المشاهد باهتة متكلفة كمشهد موت الحمار "حربى" وحزن بشاى وأوباما عليه، إذ صرخ الطفل الصغير فى مشهد أشبه بأكلشيهات المسرح حين يبكى الممثل مرددا جملته 3 مرات حتى يستعطف تصفيق الجماهير، وكان من الممكن أن يستغنى شوقى عن بعض الجمل الحوارية تجنبا للتمثيل المتكلف، لكننا لا نحمل جمال راضى أكثر مما يحتمل، فاستطاع توصيل الحالة للمشاهد فى أغلب الوقت، على رغم من ملامحه المطموسة، إذ تحتاج الكاميرا لوجه كامل الملامح يستخدمه الممثل ليستطيع التعبير عن حالاته المتباينة بين فرح وحزن وغضب وتوتر، لكن راضى تجاوز تلك العقبة بنجاح.
 
لعب أبو بكر شوقى على مشاعر مشاهديه من جوانب كثيرة، محاولا كسب أكبر قدر من التعاطف مع أبطاله، كان من ضمنها المرض واللون، لكنه أقحم الدين فى الحكاية، حين جعل بطله "بشاى" مسيحى الديانة، لتكتمل كل أسباب الانزواء والاضطهاد لأسباب مرضية ودينية، وكان يكفيه إصابة بطله بالجزام سببا للانعزال مجتمعيا، ولون بشرة أوباما ذلك الصبى النوبى اليتيم الملقب بهذا الاسم بسبب لون بشرته وسخرية الناس منه.
 
انعزال بطلنا لم يقتصر على الجانب المجتمعى فقط بل تجاوز ذلك ليصبح الانعزال ثقافيا من جانب آخر، فذلك "بشاى" و"أوباما" اللذان يصعب عليهما التعرف على الهرم على الرغم من أن "أوباما" يدرس فى مراحل التعليم الأولى وبالطبع رأى صورة الهرم فى درس من دروسه المقررة، وبذلك يوجه أبو بكر شوقى سهامه للمسئولين ويتساءل عن دورهم من هؤلاء، ورغم ذلك تميز أبطاله بالوعى رغم الانعزال، فهذا بشاى الذى يصرخ فى الطفل أوباما بأن يحافظ على الآثار ولا يكتب عليها، وذاك قزم ينتظر يوم الدين ليصبح الناس فيه سواسية. 
 
جاء المشهد التنويرى للفيلم ساذجًا، وهو المشهد الذى يجمع بشاى بأبيه، الذى تركه فى المستعمرة فى صغره وتحمل مشقة هذه الرحلة من أجله، وأفسد أبو بكر شوقى هذه اللحظة بحوار مفتعل على لسان الأب إذ يقول لبشاى: "كنت خايف تشوف حياتنا وتتمنى تعيشها ومتقدرش.. اديتك فرصة تعيش وسط ناس زيك .. عملت كدة على شانك"، ولم يترك الصورة السينمائية وحدها تعبر عن مضمون الحكاية، ليقرر بعدها العودة إلى المستعمرة:  "لازم أرجع تانى مليش مكان هنا.. الجبل وحشنى والمستعمرة وحشتنى والناس الحلوة اللى فيها والوحشة"، ويلقى القناع الذى اختبأ وراءه حتى لا يراه الناس ليعلن التصالح مع واقعه.
 
 "يوم الدين" - ورغم ما فيه من مآخذ -  تجربة مهمة فى تاريخ السينما المستقلة المصرية، فهو صرخة فى وجه السينما السائدة، ونعتبرها الشرارة الأولى للمخرج أبو بكر شوقى، الذى ننتظر منه مشروعات سينمائية أكثر تميزا ، ونتمنى أن يكون خير ممثل لنا فى المسابقة الأكبر عالميا "الأوسكار".

اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر