"الحشاشين" و"جودر".. جمال الكتابة وروح الخيال

مسلسل الحشاشين مسلسل الحشاشين
 
محمد عبد الرحمن
"الخيال ملكة عقلية" هكذا كان يرى الفيلسوف الهولندي باروخ إسبينوزا، أما الفيلسوف الألماني كانط كان يرى أن "الخيال ملكة إبداعية تحول الملكة الإنتاجية والأفكار الجميلة إلى موضوعات محسوسة"، ومن هذا المنطلق يمكننا النظر إلى الأعمال الدرامية خلال موسم رمضان 2024، وعلى رأسها مسلسل "الحشاشين" و"جودر"، التي تضافرت فيهما العناصر الفنية مع الخيال لصناعة رؤية بصرية رائعة، قادرة على الإبهار وخلق علاقة تفاعلية بين المتلقي والمبدع.
 
وفي العملين سالفي الذكر، يتبدّى النشاط الأوسع للخيال في رحاب الفن والأدب، يُفرغ فيها طاقته المثيرة، دون إغفال للواقع الذي استمد منه الكاتب معالجته الدرامية، حيث استطاع كلا من الكاتبين عبد الرحيم كمال وأنور عبد المغيث أن يمزجا الخيال بالحقيقة من خلال الواقع وليس من دونه، وربما كان خيالهما الروائي المغامرَ أكثر براعة في خوض غمرات الفكر والبشر، باعتبارهما الأصلح للحفر في تاريخ الدولة والمجتمع والسياسة، والأقدر على اقتحام خفايا الواقع والماضي معا.
 
في "الحشاشين" حاول عبد الرحيم كمال، وهو كاتب واسع الثقافة والاطلاع وصاحب رؤية إصلاحية وصوفية واعية بالتاريخ وتطور الفكر الديني، في معالجته لقصة جماعة الحشاشين الإجابة عن أسئلة عديدة تخص تاريخها المجهول والمليء بالأساطير والألغاز عن تلك الفرقة الغريبة التي أثارت جنون العالم من فوق قلعة حصينة، وعمل على إيجاد بنية حكائية وخلق تسلسل درامي مُقنع لمأساة لم يصلنا منها إلا روايات مختلفة ذكرها المؤرخين والمستشرقين عن حياة شيخ القلعة الداهية المجنون الحسن بن الصباح، وتأسيسه لجماعته وانقلابه على صديقه الوزير نظام الملك وقتله، وفي ذلك صاغ سياقًا من الشخوص التي بدت بشرًا كاملي الحضور حينًا، ورموزًا وقيمًا تُشير أكثر ممّا تُصرّح أحيانًا عن الماضي وما يقبله من واقع نعيشه، وعبر الاستقراء في روايات التاريخ المختلفة، وبخياله نجح في ردم الفجوات وترميم الشقوق في سرد ابتكاري عالج من عدد من قضايا الواقع والتاريخ معا في حدود العالم الذي يعالجه، واستكمال القطع المتآكلة من رقعة الجلد، لتوفير سياق قادر على حمل الحكاية دراميًّا، من خلال مسار صاعد لا يخلو من توليفة الحكي الأساسية، بما تتطلّبه من صراعٍ وتنامٍ وإضاءات وكشف! وبما لا يُخلّ بالظروف والبيئة التي نشأت فيها الأسطورة، ليكمل القصة ويملأ الفراغات.
 
الأكيد أن الحسن بن الصباح لم يطلع أحدًا على سره، وأن أحدًا من المؤرخين لم يشهد تلك الجنة المزعومة في قلعة آلموت بنفسه ولم يسمع روايتها من شاهد بعينه، ولم تصل يعد أمام الباحث في تاريخ تلك الجماعة سوى روايات المستشرقين التي خرجت في وقت الحروب الصليبية والتي كان أصحابها في حاجة إلى وسيلة لتأويل سبب شجاعة والهزيمة التي تلقوها في الشرق، ومن ثم كان من العسير على عبد الرحيم كمال أن يتتبع مصدر هذا الخيال من روايات الزمن الذي نشأت فيه وسرت منه إلى ما بعده من أزمنة القرون الوسطى، لكنه وضع القاعدة التي انطلق منها وهي فكر حسن الصباح نفسه وصولا إلى مقر حكمه الذي استمر فيه 56 عاما دون أن يخرج منها، ووضع رؤية أجاب فيها عن الكثير مما أغفله التاريخ وغاب عن روايات المؤرخين، ليصور لنا رجلا هيامه بالسيطرة واندفاعه كانا أعظم من دهائه.
 
الأمر نفسه تكرر مع الكاتب المسرحي والسيناريست أنور عبد المغيث، وهو كاتب تُغريه الأجواء الشعبية، وتتحقّق على وجه مُلفت في معالجة موضوعات السِّيّر والقصص التراثية والفولكلور، تجاربه السابقة حملت نزوعًا إلى حالة الحكاية الشعبية والتراثية، الذي أعاد سرد حكاية "جودر الصياد وأخويه" في السردية العربية الشهيرة "ألف ليلة وليلة" مقدما لنا معالجة عصرية تمتزج فيها الخرافة بالأسطورة والأحلام بالواقع، والاستفادة من ذلك الكنز الحافل بالخيال والفكاهة والمغامرة والقسوة.
 
ميزة السرد الحكائي الذي قدمه "عبد المغيث" في قصة "جودر الصياد" ليست فقط في إضفاء خلفية لقصته وإضفاء سردية حكائية يردم فيها فجوات الحكاية التراثية عبر استقراء جيد وسردية حافلة بالاستعارات اللفظية والصور البيانية عبر مزيج من الحداثة والأصالة معا، عبر التمهيد لقصته برشاقة وحيوية ودلالة.
 
واستطاع العمل السير بأحداثه المتصاعدة أن يسرد قصة جودر المصري من خلال الفكرة والحبكة وتطور سرد الحكاية وتشعبها وتوسيع نطاق الأحداث والشخصيات والأماكن، لكن ربما كانت الميزة الأكبر التي ربما افتقدها الكثير من كتاب السيناريو والمسرح، هي أنه قدم حكاية شعبية عبر بناء درامي ينتهج نهج سلسلة الحكايات التراثية، وبنى سرده على المتن الحكائي الشرقي، فحقق طرازا احتفاليا، له خصوصيته وتفرده وأخلاقياته وجمالياته، وأضفي عليها بعض من الخصوصية المصرية دون كثير من المبالغة أو التنميط محاولا إيجاد هوية ثقافية ودرامية لسرديته، ورغم أن الحكاية كغيرها من حكايات "ألف ليلة وليلة" تنتمي إلى السردية "الغرائبية" نمطا، إلا أنها كانت غنية بالأبعاد الفلسفية والشاعرية.
 
نجح أنور عبد المغيث في معالجته المعاصرة لحكايات "ألف ليلة وليلة" أن يبرز فكرة البطل الشعبي، والانتصار لهذا النموذج الذي ينذر حياته لخدمة المجتمع وتأمينه ضد المخاطر في اللحظة التاريخية والإنسانية التي تشهد زمن ظهوره، عبر صورة البطل الذي يمثل الرمز والشخصية التي تتمتع بالقوة والعفو والكرم والشجاعة والمروءة والحب كما تتميز بقهر الظلم، كما هى موجود بكثرة في التراث العربي والعالمي.
 
اللغة في العملين قدمت وسيطًا صافيًا مناسبا لزمن التلقّي، وهو ملمح ذكي من صناع العمل لتوضيح هوية الشخصيات الدرامية وتبسيط الأمر على المشاهد حتى يسهل التلاقي مع العمل الفني، وهو ما يبدو رهانًا من صناع العمل على اعتماد اللهجة العامية كبديلاً رمزيًا للفارسية التي كان يتحدث بها سكان دولة السلاجقة وكذلك الحال مع الحسن بن الصباح واتباعه، أو الفصحى مثلما الحال في حكايات ألف ليلة وليلة، وانطلقت المعالجة المنطوقة من حالة النص وظهيره المُؤسّس، وكان الحوار في كثير من نطاقاته شعرًا أو أقرب إلى الشعر، فكان الحوار واحدًا من مقومات المسلسلين الأساسية وأبرز عناصر قوتهما، لا سيّما أنه ينسجم مع أجواء القصة، مزاجا فيها بين الجانب النقدي الاجتماعي بالإسقاط السياسي.

اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر