لم يشكل مطرب وجدان أجيال كاملة من المحيط إلى الخليج مثلما شكلها الفنان المصري الراحل عبد الحليم حافظ، فهو كان وسيظل أيقونة فنية خالدة لا تبهت مع الزمن، واليوم يتجدد الحنين وتنبعث الذكرى، ذكرى ميلاده.
سر نجاح عبد الحليم يكمن ما بين موهبته الفطرية، وذكاءه الفني، وإخلاصه الكامل لفنه وجمهوره، واعتقد أن حياته المأساوية هي التي صقلت داخله حساً إنسانياً ظهر بوضوح في صوته الدافئ وأغنياته العاطفية والوطنية على حد سواء.
صوت العندليب لم يكن الأقوي في عصره ، لكنه كان صوتًا نادرًا في صدقه وإحساسه، صوتًا قادرًا على أن "يحكي" ويغني في آن واحد، فكانت كلماته تصل مباشرة إلى قلب المستمع دون وسيط، وغنى عبد الحليم للحب، واللوعة، والفراق، لكنه غنى أيضًا للوطن وللثورة والانتصار والانكسار، فبدأت شهرته من "صافيني مرة"، و"جانا الهوى"، و"أهواك"، إلى "عدى النهار"، و"أحلف بسماها"، و"فدائي"، وأثبت أنه فنان الشعب بامتياز، وأن صوته قادر على أن يجمع العشاق والمقاتلين، الحالمين والواقعيين.
في تحليل لصوت عبد الحليم حافظ، نجد أن قوته لم تكن في طبقة صوتية استعراضية، بل في قدرته التعبيرية الفذة كما ذكرت ، فقد امتلك قدرة نادرة على ترجمة الكلمة إلى شعور، وكان يتنفس كل جملة كما لو كانت جزءًا من سيرته الذاتية، واعتمد على أسلوب "الغناء داخل الحالة"، فكان يغني وهو يعيش الأغنية بكل جوارحه، حتى أنه كان يُصاب بنزيف على المسرح دون أن يتوقف.
أما لو تحدثنا عن السر الأكبر في حب الجماهير له فيكمن في أنه كان يغني لهم ومنهم، ولم يقف يومًا موقف "النجم البعيد"، بل حافظ على حميمية العلاقة مع جمهوره طوال حياته، حتى تحوّلت حفلاته إلى طقوس وجدانية يعيشها الجمهور بكل جوارحه، كما في "قارئة الفنجان"، و"رسالة من تحت الماء"، و"موعود"، وغيرها.
هل كان عبد الحليم حافظ مغنيًا يلعب أدوارًا في السينما؟ أم ممثلاً صاحب موهبة حقيقية؟، الإجابة علي هذا السؤال تستدعي تحليلا لأداء العندليب في الأفلام التي قدمها، وأنا أميل لكن العندليب كان ممثلا ويمتلك الموهبة وتطورت موهبته فيلما عن الآخر، وغالبًا ما كانت أفلامه امتدادًا لغنائه، وتعبيرًا عن ذات واحدة موزعة بين الصورة والصوت، وهو قدم حوالي 16 فيلما من أحبها إلي قلبي : ( أيامنا الحلوة ، شارع الحب ، يوم من عمري ، موعد غرام )، وأكثر الأفلام بالنسبة لي نجاحا في الأداء لعبدالحليم هو " الوسادة الخالية " فهو من أعمق ما قُدم من مشاعر الحزن والانكسار العاطفي .
عبد الحليم حافظ رمز ثقافي ومجتمعي، اختزل أحلام البسطاء، وترجم أحاسيسهم، وشاركهم في أوجاعهم وأفراحهم، حتى أصبح جزءًا من النسيج الوجداني العربي، وهذا يفسر استمرارية حضوره، فهو مرآة للجماهير في لحظات العشق والثورة والانكسار والانتصار، وصوته ما يزال حيًا، كأن الزمن لم يمر عليه، وتبقى ذكراه، في كل بيت عربي، نغمةً من الزمن الجميل الذي لم يخذل العاطفة ولا الوطن.