جمال عبد الناصر يكتب : من طقس الخشبة إلى سحر الشاشة.. قراءة نقدية في تلقي المهابهاراتا لبيتر بروك

المهابهاراتا المهابهاراتا
 
هذا المقال لم يولد من فراغ، بل هو ثمرة بحث أكاديمي موسّع أنجزته في مادة آليات التلقي، ونلت به درجة الامتياز، وكان للدكتورة رانيا عبد الرؤوف، أستاذة المادة، فضل كبير في إلهام فكرة البحث وتوسيع أفقه، فهي من فتحت الباب أمامي لاكتشاف العمق المدهش لهذا الحقل النقدي، وربط النظرية بالتجربة الحية، واليوم، أعود إلى ذلك العمل الضخم لأقدّمه هنا في نسخة شديدة الاختصار، بعد أن تحوّل من دراسة أكاديمية معمّقة إلى مقال نقدي أضعه بين يدي القارئ، ليفتح معه حوارًا جديدًا حول المسرح، السينما، والجمهور.
 
في زمن تُختزل فيه التجارب الفنية إلى مقاطع سريعة على الهواتف، يبدو الحديث عن عرض مسرحي مدته تسع ساعات أشبه باستفزاز، لكن بيتر بروك فعلها، ولم يكتفِ بأن يقدّم ( المهابهاراتا ) – أضخم نص ملحمي في تاريخ الهند – في عرض حي يبتلع يومك بالكامل، بل تجرأ بعدها على تقديم هذه الروح الأسطورية في فيلم لا يتجاوز ثلاث ساعات، وكانت النتيجة؟ مواجهة مباشرة مع سؤال لا يريد كثيرون الإجابة عنه: من يملك زمام المعنى… المبدع أم الجمهور؟
 
الخشبة.. حيث يتنفس المعنى
في المسرح، لا مكان للكسالى، أنت هناك بجسدك وروحك، لا زر إيقاف ولا فرصة " إعادة المشهد "، كل لحظة تلتقطها أو تفقدها إلى الأبد،  بروك، في نسخة المهابهاراتا المسرحية، لم يمنحك مشاهد مكتملة، بل فضاءات فارغة تنتظر أن تملأها أنت، أن تتورط في الصراع، أن تشعر بحرارة أنفاس الممثل وتراقب العرق وهو يلمع تحت الأضواء، والمعنى هنا يولد أمامك، وربما من أجلك، وأي تقصير منك يقتل شيئًا منه.
 
المسرح يمنحك ذلك الإحساس بأنك جزء من التجربة، وأن حضورك ليس تفصيلًا ثانويًا، بل عنصر حيوي في صناعة اللحظة، فقد تضحك فتجرّ الآخرين للضحك، أو تصمت في لحظة حرجة فتزيدها ثقلًا، والعرض يتنفس بك كما تتنفس به، وهذا ما يجعل كل ليلة عرض مختلفة عن الأخرى، حتى وإن كان النص واحدًا.
 
الشاشة.. الوهم المصقول
ثم تأتي السينما، بسطوتها وبهائها، لتضعك في مقعد مريح، مع وعدٍ بأنها سترشد عينك إلى " ما يجب أن تراه " فالكاميرا تتحكم، والمونتاج يوجّه، والموسيقى تحرّك مشاعرك في اللحظة التي يقررها المخرج، لا أنت، وفي فيلم المهابهاراتا، غابت حرارة اللحظة الحية، لكنك ربحت لوحات بصرية لا يقدر المسرح على صنعها، هنا المعنى مكتمل قبل أن تصل، وأنت مجرد زائر متأمل في متحف محكم الإضاءة، وهذا لا يعني أن السينما عاجزة عن إبهارك، بل إنها تمتلك القدرة على إدخالك في عالم متكامل الصنعة، حيث كل تفصيلة محسوبة بدقة، من حركة الظل على وجه الممثل إلى الانفجار الموسيقي في لحظة الكشف الدرامي، لكنها، في المقابل، تسلبك حريتك في اختيار مجال نظرك أو إيقاعك الشخصي، لتمنحك وهم " الرؤية الكلية "  بينما أنت في الحقيقة تتابع ما اختاره لك صانع العمل.
 
الجمهور.. بين الشريك والزبون 
التجربة المزدوجة لبروك ليست مجرد تحويل عمل من وسيط إلى آخر، بل اختبار صريح للجمهور: هل تريد أن تكون شريكًا في خلق المعنى أم زبونًا يستهلكه؟ المسرح يعرض عليك صفقة شاقة لكنها صادقة: أنت جزء من الحدث، تتفاعل معه في زمنه الحقيقي، وتشارك في صنع أثره، والسينما تمنحك صفقة مريحة لكنها محكومة، فأنت متفرج، لا أكثر، يستهلك منتجا مكتملا ، والمهابهاراتا، في نسختيها، تكشف لنا أن قيمة الفن لا تتحدد فقط بالوسيط الذي يُقدَّم عبره، بل بقدرته على إرباكنا، على دفعنا للتساؤل: هل نحن مشاركون في اللعبة أم مجرد عيون تراقبها من بعيد؟ ربما لهذا، مهما اختلفت أدوات العرض، يبقى العمل الفني الصادق هو ذاك الذي يتركك بعده مختلفًا عما كنت، سواء غادرت القاعة مترنحًا من طول العرض، أو أطفأت الشاشة وأنت غارق في أسئلة لا تنتهي.
 
وبيتر بروك  يعد من أهم مخرجي المسرح في القرن العشرين الذين اهتموا بالعلاقة بين العرض والمتلقي، ليس من زاوية التنظير فقط، بل من خلال ممارسة جمالية وتجريبية عبّر عنها في أعماله الشهيرة، وعلى رأسها "المهابهارتا" التي قدّمها بنسختين: مسرحية وسينمائية، وهي هنا خير نموذج في هذه الدراسة، وفي كتابه الشهير" الفضاء الفارغ " يؤسس بروك لنظرية مسرحية ترى أن العرض لا يُبنى من خلال النص وحده، بل عبر علاقة مركّبة بين الممثل، والفضاء، ووجود المتلقي شرط وجودي للفعل المسرحي نفسه، وأن التلقي ليس نتيجة العرض بل جزء من بنيته.
 
مسرحية "مهابهاراتا" من أهم المسرحيات التي قدمها بيتر بروك، حيث شغف هذا المسرحي الكبير بالميثولوجيا الهندية وقد اشتغل على النص الملحمي في تعاون مع الكاتب الفرنسي جان كلود كاريير، والمهابهارتا قدمها بروك في نسخة مسرحية وفي نسخة سينمائية من ملحمة المهابهارتا الهندوسية، وأُنتجت سينمائيا عام ١٩٨٩، وأخرجها بيتر بروك، وبلغت مدة المسرحية الأصلية التي أخرجها بروك عام ١٩٨٥ تسع ساعات، وعُرضت في جميع أنحاء العالم لمدة أربع سنوات، وفي عام ١٩٨٩، أُنتجت نسخة مُختصرة، أقل بقليل من ست ساعات، كمسلسل تلفزيوني قصير وفي المقابل، حُرر هذا المسلسل في نسخة مدتها ثلاث ساعات تقريبًا لعرضه في دور السينما، وكان السيناريو ثمرة ثماني سنوات من العمل الدؤوب من قِبل بروك وجان كلود كاريير وماري هيلين إستيان، وتلقت النسخة السينمائية من المهابهارتا تصفيقًا حارًا لمدة 20 دقيقة في مهرجان البندقية السينمائي عام 1989 وحصلت على جائزة إيمي بعد عرض الفيلم على التلفزيون، وفي عام 1990، وجائزة الجمهور لأفضل فيلم في مهرجان ساو باولو السينمائي الدولي. 
 
ماهي المهابهاراتا ؟ 
المهابهاراتا هي ملحمة الهند الرئيسية كما الإلياذة والأوديسة عند اليونان، وتحوي تاريخ الهنود وأساطيرهم وحكاياتهم، وتعد لدى الهنود السفر الخامس من أسفار الحكمة، وتعتبر مصدرا غنيا من مصادر التصوف، وقد عنى بها أيضا المسلمون في الهند، فترجمت إلى الأوردية، ونشرت لباحثين مسلمين حولها دراسات كثيرة، وتنسب المهابهاراتا إلى فياسا، وهو شخصية أسطورية تنسب إليه جميع أسفار الحكمة الهندية (الفيدا).
 
المهابهاراتا: النص الملحمي الأكبر في الهند القديمة
تُعد المهابهاراتا (Mahābhārata) من أضخم وأهم الملاحم الأدبية في التاريخ الإنساني، وتحتل في الثقافة الهندية مكانة تقابل مكانة الإلياذة والأوديسة في الثقافة اليونانية، بل تتفوق عليهما من حيث الحجم والتنوع الموضوعي. فالمهابهاراتا ليست مجرد قصة حرب، بل هي موسوعة دينية، فلسفية، أخلاقية، وأسطورية، تمثّل خلاصة الفكر الهندي القديم، وتُعرف بأنها "السفر الخامس من أسفار الحكمة" بعد الكتب الفيدية الأربعة، لما تحتويه من تعاليم ووصايا ومفاهيم وجودية وروحية عميقة.
 
 
قراءة نقدية في تلقي المهابهاراتا لبيتر بروك  (3)
قراءة نقدية في تلقي المهابهاراتا لبيتر بروك (3)

قراءة نقدية في تلقي المهابهاراتا لبيتر بروك  (1)
قراءة نقدية في تلقي المهابهاراتا لبيتر بروك (1)

قراءة نقدية في تلقي المهابهاراتا لبيتر بروك  (2)
قراءة نقدية في تلقي المهابهاراتا لبيتر بروك (2)
 
المسرح يمنحنا وهم " الحضور الكامل " ، بينما تمنحنا السينما وهم " الرؤية الكلية "، وفي المهابهاراتا حقق بيتر بروك معادلة نادرة، وهي تقديم نص ملحمي بروح طقسية على الخشبة، ثم إعادة صياغته بلغة الصورة السينمائية دون أن يفقد جوهره، لكن يظل السؤال مفتوحًا: أي الوسيطين يتيح للمتلقي أعمق تجربة؟ ربما تكمن الإجابة في أن قيمة العمل الفني لا تتحدد فقط بالوسيط، بل بقدرته على استدعاء مشاركة المتلقي – جسدًا وفكرًا وروحًا – في صناعة المعنى.
 

 


اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر