جمال عبد الناصر يكتب: فاطمة الهواري لا تصالح.. ذاكرة تقاوم النسيان

 
كتب : جمال عبد الناصر

حين نقترب من عرض مثل "فاطمة الهواري لا تصالح"  للفنان غنام غنام لا يمكن أن نتعامل معه على أنه مجرد إعادة تمثيل لواقعة تاريخية أو شهادة فلسطينية فحسب، بل هو نص مسرحي مركب تتصارع داخله أصوات، سرديات، وزمنيات، في محاولة لزعزعة مركزيات الخطاب السياسي والفني.

في عرضه المسرحي، يعود غنام غنام إلى ترشيحا؛ المدينة التي حملت ذاكرةً مثقلة بالغياب والاقتلاع، ليحوّل الحكاية الشخصية إلى مرآةٍ جماعية تنطق بلسان المقهورين، فالعرض يتنقّل بين بوحٍ داخلي وحوارٍ مسرحي مفتوح، حيث تتصارع ذاكرة المكان مع خطاب المصالحة الزائف، في محاولة لاجتراح معنى جديد للانتماء، ووفق المنهج التفكيكي، يصبح النص المسرحي فضاءً للانهيار بقدر ما هو فضاء للمعنى، إذ ينكشف ما يحاول أن يخفيه، ويهتز ما يبدو صلبًا ومطلقًا، وفي هذا السياق، فاطمة ليست فقط شاهدة وضحية، وليست مجرد رمز للمقاومة، بل هي نصّ مفتوح، جسد مجروح، وصوت يفضح تناقضات السلطة وسردية المحتل.

النص الذي كتبه وأخرجه غنام غنام جاء مكثفًا، متماسكًا، ولكنه لم يركن إلى السرد الخطي، لكنه نص يتقدم بالاستدعاء والذاكرة، يتحرك بين زمنين (النكبة 1948 / المواجهة مع القاتل بعد عقود)، ليؤكد أن الماضي لا يزول بل يستمر في الحاضر، وهذا الانقسام الزمني يخلق مفارقة : ما بدا حدثًا منتهيًا (القصف، الشلل، فقدان الأحبة) يعود متجددًا كلما ادّعى القاتل أنه "داعية سلام"، وهنا ينهار خطاب الاعتراف والتوبة، لأن النص يكشف زيفه، ويقوّض مصداقيته.

غنام غنام قدّم نصًا أقرب إلى "مونودراما جماعية" تعتمد على الحكي والشهادة، لكن بوعي بريختي في كسر الحائط الرابع، وهذا الانفتاح على المتلقي يقوّض وهم التمثيل، ويجعل الجمهور في مواجهة مباشرة مع المأساة، وهكذا، يتصدع الحاجز بين الفن والواقع، بين المسرح والتاريخ، لتصبح الخشبة ساحة مساءلة.

ومنذ اللحظة الأولى يضعنا العرض أمام بوابة الصوت، وهو ليس مجرد خلفية موسيقية أو استهلال مألوف، بل ولوج إلى فضاء آخر، حيث تبدأ الحكاية بتراث فلسطين، والأغنية التي تنبع من عمق الأرض، فتغدو الموسيقى هنا ذاكرة جمعية متجسّدة على خشبة المسرح، و يطل علينا داخل احداث العرض صوت فيروز حتى يتبدّد الحد الفاصل بين الماضي والحاضر؛ ذلك الصوت الذي يعرفه كل قلب عربي، يحملنا من دفء الحنين إلى قسوة الفقد، ومن شجن الغياب إلى وعد العودة.

موسيقى ماهر الحلو ونسيج الصوت وحدة واحدة تخلق معمارًا جديدًا داخل العرض: إيقاعات متقطعة، ومقامات تتداخل، ونبض موسيقي يضاعف التوتر، ويجعل المشاهد شريكًا في اختلال التوازن الذي يسكن الشخصيات.

لكن العرض لم يتوقف عند الموسيقى وحدها؛ فالصوت تمازج مع التكوين البصري والحركة ليؤسس معًا عالماً متعدد الطبقات، وكانت الخشبة أقرب إلى لوحة مفتوحة، تتحرك عليها الأجساد وكأنها علامات في نص يتغير باستمرار، والحركة لم تكن زخرفة، بل فعل تأويلي، فكل إيماءة تُعيد صياغة معنى، وكل صمت يحمل في داخله ارتجاف الموسيقى، وحين يتوقف الجسد عن الحركة، تتكلم النغمة؛ وحين يعلو الصوت، تنكمش الإضاءة لتمنح المشهد بعدًا داخليًا يوازي صخب الخارج.

هذا التفاعل بين الصوت والصورة، بين الحركة والموسيقى، صنعه الفنان غنام غنام ببراعة ليكشف لنا عن بنية عرض لا يبحث عن معنى واحد، بل تُنتج معاني تتعدد بقدر ما تتعدد القراءات، فالعرض هنا ليس خطابًا مغلقًا، بل فضاء مفتوحًا، تتجاور فيه الأغنية التراثية مع موسيقى معاصرة، ويجاور فيه الجسد المادي صورةً شاعرية ترسمها الإضاءة وتلوّنها الحركة.

الفنانة أماني بلعج جسدت شخصية فاطمة عبر مرحلتين عمريتين، متنقلة بسلاسة بين العروس الحالمة، والمرأة المقعدة التي ترفض النسيان، هنا يحضر التفكيك في ازدواجية الأداء: فاطمة ليست واحدة، بل هويات متداخلة، أصوات متنازعة، وذاكرة ممزقة بين الحب المفقود ورمزية "عروس فلسطين"، وهذا التعدد يُبطل فكرة "الشخصية الثابتة"، ويكشف هشاشة الهوية أمام الاحتلال والذاكرة، لكنها في الوقت نفسه تظل أقوى من محاولة التذويب أو الاستلاب، فتعلن "لا تصالح".

أحمد العمري (آبي ناتان) أدّى شخصية مزدوجة بدورها: القاتل الذي يريد أن يكون مصلحًا، الطيار الذي يتحول إلى داعية سلام، وهذا الانقسام يعرض الشخصية في تناقضاتها، فهو يريد أن يخفف من عبء ذنبه، لكنه لا يغادر أبدًا موقع الجلاد، فخطاب "السلام" الذي يقدمه ليس سوى إعادة إنتاج للهيمنة، إذ يساوي بين الضحية والقاتل، بين الفلسطيني المذبوح والمحتل المعتدي.

الديكور شبه المعدوم – كرسي متحرك يتوسط الخشبة، فضاء فارغ، ملابس سوداء وكوفية – كل ذلك يوحي بالغياب، بالنقص، وبما لم يُقل، وهنا يصبح "الفراغ" جزءًا من النص، إذ يفتح المجال للمخيلة، ويكشف أن ما يغيب أكثر حضورًا مما يُعرض، فالكرسي المتحرك يحمل ثنائية العجز/المقاومة، الجسد المشلول/الصوت الصارخ، وفي هذا التناقض تكمن قوة الرمز، فهو لا يرسو على معنى واحد بل يتشظى ليعكس توترات النص.

الإضاءة الحادة والمتدرجة بين السواد والحمرة، والموسيقى التي تترك للصمت مساحة أكبر من النغم، كلها عناصر تؤكد أن المعنى يُبنى عبر الانقطاع لا الاستمرار، عبر الغياب لا الحضور، وهو جوهر التفكيك الذي يفكك مركزية "الحدث" لصالح التوترات بين ما يُقال وما يُسكت عنه.

هذا العرض يكشف بوضوح أن السردية الإسرائيلية عن "السلام" هي خدعة كبرى، إذ يسقط ادعاء "الطيار التائب" بمجرد أن تواجهه فاطمة بذاكرتها، ويظهره كآلية لتبييض الجريمة، وفاطمة، بقولها "قتلتني مرتين"، تفتح النص على جرح لا يلتئم، وعلى استحالة المصالحة.

في عرضه "فاطمة الهواري لا تصالح"، قدّم غنام غنام نصًا مسرحيًا يقوض الثنائيات (الضحية/الجلاد، الماضي/الحاضر، التمثيل/الواقع)، ويكشف أن الهوية الفلسطينية ليست أثرًا من الماضي، بل حضورًا ممتدًا يقاوم كل محاولات المحو، والمنهج الذي قدم به الفنان غنام غنام عرضه لا يُقرأ كخطاب مغلق، بل كنص متشظٍ، حيث تتنازع الأصوات والمعاني، وحيث كل رمز ينفتح على نقيضه، ففاطمة هي الضحية والمقاومة، الجسد المعاق والجسد الحي، العروس التي لم تتزوج والعروس الأبدية لفلسطين.


هكذا، سيظل هذا العرض وثيقة مسرحية/جمالية تقوض خطاب الاحتلال، وتعيد تعريف وظيفة المسرح العربي، فهو ليس للتسلية أو التطهير، بل للحفر في الذاكرة الجماعية، وطرح سؤال لا يزال مفتوحًا:  هل يمكن للجرح أن يتصالح؟

 


اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر