حين يصبح الفن ثورة.. البلوز نموذجًا للتحرر من العنصرية

الناقدة شيماء سعيد الناقدة شيماء سعيد
 
بقلم : شيماء سعيد
 
نشأت موسيقى البلوز في سياق تاريخي بالغ القسوة، ووُلدت من عمق المعاناة الإنسانية التي عاشها الأفارقة في أمريكا الجنوبية بعد تهجيرهم القسري من القارة السمراء، فمع بداية الاستيطان الأوروبي في القارة الأمريكية، ووسط حملات الإبادة التي طالت السكان الأصليين، برزت حاجة استعمارية ملحة إلى قوى عاملة تُعيد الحياة إلى ملايين الأفدنة من الأراضي الزراعية، وهنا وقع الاختيار على الأفارقة، لا لأنهم كانوا شركاء في مشروع الحياة الجديدة، بل لأنهم كانوا يُنظر إليهم كأجساد صلبة يمكن استغلالها حتى آخر رمق.
 
 وفي ظروف هذا العمل القسري والاستعباد في المزارع، بدأت تتشكل بدايات موسيقى البلوز، ليس كنمط فني ترفيهي، بل كشكل من أشكال البقاء، والتعبير عن الألم والرفض، هذه الموسيقى انتقلت من الحقول إلى المدن، ومن الأغاني الجماعية إلى التسجيلات، ثم إلى الأفلام والنوادي، لتصبح مع الوقت واحدة من أبرز أشكال التعبير الثقافي والسياسي للسود في أمريكا.
 
  • من الجذور الأفريقية إلى مزارع أمريكا
في القرى الأفريقية، كان الغناء الجماعي جزءًا من الطقوس الاجتماعية والدينية، هذا النمط الذي يُعرف بأسلوب "النداء والرد" (Call and Response)، حمله الأفارقة معهم لأمريكا وتحديدًا في الحقول رغم التهجير القسري، أصبح أحد اللبنات الأساسية في موسيقى البلوز، بدأ العبيد يغنون لتخفيف الإرهاق، ثم لتبادل الرسائل، وبعد ذلك للتعبير عن الحزن والاعتراض، دون الحاجة إلى لغة مكتوبة، بل مجرد الصوت والإيقاع، ومع مرور الوقت أصبح الغناء وسيلة لحفظ الذاكرة الجماعية، وتأكيد الهوية.
 
 
  • عندما قرر العالم أن الأسود أقل قيمة
العنصرية في هذا السياق لم تكن مجرد سلوك فردي أو مشاعر كراهية، بل كانت نظامًا متكاملًا، فبعض العلماء في القرن التاسع عشر، مثل جيورجي كوفيه، حاولوا استخدام علم الأنثروبولوجيا لتقسيم البشر إلى "أعراق" متفوقة وأخرى متدنية، وُضع الإنسان الأبيض في القمة، والأسود في القاع، تحت مبررات زائفة مثل "المتحضر" و"الوحشي، هذه النظرية ساعدت على ترسيخ التمييز، وتبرير الاستغلال، ومنح امتيازات سياسية واقتصادية لفئة على حساب أخرى، ما جعل مقاومة هذه الأفكار تتطلب عملًا فكريًا ومجتمعيًا طويل الأمد، وليس فقط رد فعل غاضب.
 
  • لماذا سُميت "البلوز"؟
كلمة "بلوز" مشتقة من تعبير إنجليزي قديم "Blue Devils"، كان يُستخدم للدلالة على الحزن والاكتئاب العميق، لاحقًا، أصبح تعبير "I got the blues" شائعًا للدلالة على شعور داخلي بالحزن أو الضيق، ومع الوقت أصبح هذا التعبير يصف نمطًا موسيقيًا بالكامل، يعتمد على تكرار الجمل الموسيقية، ونقل مشاعر الانكسار والخسارة، لكنه أيضًا يعكس صمودًا داخليًا وتحديًا للواقع.
 
  • الهجرة الداخلية وانتقال البلوز إلى المدن
في أوائل القرن العشرين، بدأ السود الأمريكيون ينتقلون من ولايات الجنوب إلى الشمال بحثًا عن حياة أقل قسوة، في مدن مثل شيكاغو ونيو أورلينز وممفيس، ظهرت نوادٍ ومقاهٍ تحتضن موسيقى البلوز، في هذه البيئات الجديدة، تطوّر البلوز من غناء فردي بسيط إلى أداء متكامل باستخدام آلات مثل الغيتار والهارمونيكا. وتحول من وسيلة للتنفيس إلى مساحة للاحتجاج والتوثيق.
 
 
  • "Strange Fruit" من أغنية إلى وثيقة احتجاج
من بين جميع الأغاني التي خرجت من هذا السياق وأكثرها تأثيرًا، أغنية "Strange Fruit" ، كتب الشاعر الأبيض "أبيل ميروبول" كلماتها عام 1937 بعد مشاهدته صورة جثث السود الذين أُعدموا بلا محاكمة وبلا رحمة، فقط لأنهم سود، كلمات الأغنية تنقل المفارقة القاتلة بين الجمال الطبيعي (الماغنوليا، النسيم، الحقول) وبين رائحة اللحم المتفحم، الأجساد المتأرجحة، العيون المنتفخة، الأغنية تصف الجثث المعلقة كأنها "فاكهة غريبة" في إشارة مباشرة إلى الإعدامات العنصرية خارج القانون التي كانت تُمارس في جنوب أمريكا.
 
غنتها "بيلي هوليداي" لأول مرة عام 1939، وأثارت صدمة واسعة، رُفضت من عدة محطات إذاعية، وتعرضت "هوليداي" لضغوط كبيرة بسببها لكنها صمدت، أصبحت الأغنية لاحقًا رمزًا فنيًا ضد العنصرية، وأصبحت مع الوقت نشيدًا للحقوق المدنية، واختارتها مجلة Timeكأغنية القرن عام 1999، كما أدرجتها مكتبة الكونغرس في سجل التسجيلات الوطنية عام 2002، وهكذا أثبتت الموسيقى أن الإبداع قد يُولد من رحم الألم، وأن نغمة واحدة صادقة قد تُربك نظامًا قائمًا على العنصرية والتفرقة، وأن الفن، وإن بدا ناعمًا، قد يكون أكثر فتكًا من الرصاص حين يتكلم بلسان المظلومين.
 
كانت الأغنية تقول:
على أشجار الجنوب فاكهة غريبة
دم على الأوراق ودم على الجذور
أجساد سوداء تتأرجح مع نسيم الجنوب
فاكهة غريبة تتدلى من أشجار 
عيون منتفخة، أفواه ملوية، رائحة لحم متفحّم...
 
 
  • البلوز في السينما: من الصوت إلى الصورة
السينما منذ بداياتها، التقطت تأثير موسيقى البلوز، في فيلم "St. Louis Blues" عام 1929، ظهرت المغنية "بيسي سميث" وهي تؤدي مقطع بلوز، في واحد من أوائل المشاهد السينمائية التي منحت هذا النوع من الموسيقى مكانًا، ولاحقًا أصبحت موسيقى البلوز عنصرًا أساسيًا في سرد قصص شخصيات مثل "بيلي هوليداي" في فيلم "Lady Sings the Blues"، حيث أصبحت الأغاني جزءًا من تطور الحبكة، وليست مجرد خلفية صوتية، وفي أفلام حديثة مثل "Ma Rainey’s Black Bottom"، استُخدمت موسيقى البلوز لتجسيد التوترات العرقية والاجتماعية، وكعنصر سردي قائم بذاته.
 
  • من الهوية إلى التأثير العالمي
لم تظل البلوز حكرًا على السود الأمريكيين خلال الستينيات، وانتقل تأثيرها إلى أوروبا، حيث تبنّاها موسيقيون بيض، من أبرزهم إريك كلابتون، وأعادوا تقديمها بإسلوبهم، مع الحفاظ على الاعتراف بجذورها السوداء، اليوم تُقام مهرجانات للبلوز في عشرات الدول، وتُنتج أفلام وثائقية، وتُدرّس هذه الموسيقى كجزء من التاريخ الثقافي العالمي، لقد تحولت من شكل محلي للمقاومة إلى وثيقة إنسانية تعبر عن تجربة مشتركة ضد الظلم.
 
البلوز لم يكن مجرد موسيقى حزينة، بل كان تعبيرًا عن تجربة إنسانية شديدة القسوة، وصوتًا حيًا لمجتمع قاوم العبودية والعنصرية بالتعبير والثقافة، لم تكن الألحان ترفًا، بل أداة مقاومة حقيقية، ومساحة للكرامة في وقتٍ لم يكن يُعترف لهم فيه حتى بالحد الأدنى من الحقوق، هذا النوع من الموسيقى، الذي بدأ كهمهمة في الحقول، أصبح وثيقة اجتماعية وثقافية وسياسية، واستمر ليصبح جزءًا من الذاكرة العالمية.

اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر