المثقف بين الدراما وأدب الرواية

ميادة أبو يونس ميادة أبو يونس
 
بقلم : ميادة أبو يونس
في عام 1926 كتب طه حسين كتاب عن النقد الأدبي تحت عنوان " في الشعر الجاهلي " مما تسبب في زوبعة عارمة، وشن الأزهر حملة تكفيرية ضده ومارست عليه سلطة الأزهر ما يشبه مقص الرقيب.
 
الحقيقة أن العداء المتبادل بين طه حسين ومؤسسة الأزهر ليس وليد كتابه في الشعر الجاهلي، بل هي قديمة قدم انتسابه لهذه المؤسسة ورفض الأزهر منحه شهادة العالمية؛ لجرأته الجارحه ونقده اللاذع لأساتذته. 
 
وجهت له تهم عديدة بالكفر والزندقة، وقيل عنه أنه يستهزأ في هذا الكتاب بالأنبياء وينكر وجودهم في المطلق، وقيل أنه يشكك في مصدقية القرآن الكريم، وهي بالطبع تهم تثير الجدل داخل الدوائر الثقافية وخارجها بداية من النخبوي وصولًا لرجل الشارع المستهدف بالأساس، وقد استمر الصراع المتبادل بين مؤسسة الأزهر ككيان ديني يظن أن الكتاب يهدم المعلوم من الدين بالضرورة وطه حسين ككيان ثقافي يمثل الحداثة والتجديد الثقافي على مدار ست سنوات.
 
لعل القارئ يتساءل لماذا هذه المقدمة؟ والإجابة باختصار أن كتاب في الشعر الجاهلي هو الذي دفع طه حسين أن يكتب رواية يعدها البعض ترجمة ذاتية والتي تحمل عنوان " الأيام " 1927 وهي بيت القصيد في هذا المقال كرواية ودراما تلفزيونية عكست بصورة أو بأخرى معاناة الثقافة في مصر بل معاناة كيف يصل المثقف إلى ما هو عليه بعد أن يسلك أصعب السبل، كما كشفت الرواية والدراما معًا إشكاليات خطيرة كفقر البيئة والجهل المجتمعي وآثار الدجل الفكري على الإنسان وعلى تحديد مصيره.
 
ومن هنا لا يمكن اعتبار رواية الأيام ومسلسل الأيام عملًا قصصيًا من نوعية السيرة أو الترجمة الذاتية بل هو أقرب إلى وثيقة وطن، صحيح أن الكاتب أنطلق من مركزيته الذاتية ولكنه انتقل منها إلى مركزية عمومية، أي من الخاص إلى العام فانتقل من أزمته إلى أزمات متعددة تشكل حياة الفرد بل المجتمع، وهي التخلف والفقر والخرافات في مقابل العلم، وهو العدو اللدود لهذه البيئة التي تقذفه بعيدًا. 
 
ولذلك سلط الضوء على فقر البيئة التي تنعكس على فقر المثقف وعجزه، وكيف يحول الفقر كما يحول الجهل بين العلم ومستحقيه. الأيام سيرة ذاتية للمجتمع المصري في عشرينيات القرن المنصرم، كشفت عن أزماته الممتدة حتى الآن فكما فتكت الكوليرا في القرى البسيطة فتكت أيضًا الأمراض الاجتماعية الأشد خطورة علينا في يومنا هذا، وكما عاث الجهل فسادًا في أوصال الطبقات الاجتماعية بداية من القرى وصولًا للمدن والأزهر نفسه كمنارة تمثل العلم، كذلك أفسد الفقر والعوز المعرفي أي محاولة للنقاش المنفتح. 
 
في الرواية نحن أمام محاولة خروج صبي فقير أعمى من إحدى قرى الصعيد عافر بكل ما لديه من طاقة ليصل إلى الأزهر والجامعة وعمادة كلية الآداب، كأول عميد مصري ووزيرًا للمعارف إنها خارطة استخراج كنز مكنون من وحل.
 
 في هذه البيئة المحتضرة نشأ ونما الصبي الذي ألتحق بكتّاب القرية وأتم حفظ القرآن ومعه تعلم أن السيدنا يحلف أغلظ الأيمان الباطلة بل يحلف بالطلاق وهو كاذب، وأن القاضي الشرعي يكذب وكل أصحاب العمائم سواء في الكذب والرياء وسب غيرهم من المخالفين.
 
هذه الرواية التي تحدث فيها طه حسين بضمير الغائب لا المتكلم أرد من خلال ضمير الغائب أن يعكس حالتين الأولى شعوره بالاغتراب عن نفسه من ناحية، لأنه لم يتقبل عماه وبينه وبين بيئته المتخلفة من ناحية أخرى، هذا الاغتراب الذي عكس الانفصال بين الصبي وعالمه الغامض الملتبس بسبب عماه وفقدان بصره، والحالة الأخرى هي وقوفه موقف الحياد من حياته أو موقف القاضي يحكم على هذا الصبي بالكذب والخداع أحيانًا فصار يحاكم نفسه ويجلدها، صحيح أنه كان يلقي باللائمة على سيدنا من ناحية والقاضي الشرعي من ناحية أخرى في تعليمه فنون الكذب وحيل الخداع ولكن هذا الأسلوب مكنه من الوقوف موقف الحياد في سرد تفاصيل صباه وشبابه. وربما استخدم هذا الأسلوب (الغائب) ليخلصها من شائبة السيرة الذاتية، حتى تكون سيرة صبي ضرير تحدى الصعوبات واستطاع من خلال رسم هذه اللوحة الوقوف على محطات اجتماعية وثقافية هامة، وتوثيق بعض دلائل التخلف الاجتماعي إنها سيرة تفضح عمى الموروث بكل تجلياته الاجتماعية والدينية والثقافية. لقد رسم طه حسين معالم بطل مصري تحدى إعاقته التي لم يولد بها بل خلفتها البيئة، فإصابته بالعمى كانت نتيجة جهل الأم، ومن قبلها جهل البيئة بل جهل أغلبية المجتمع فدفع الطفل الصغير ثمنًا باهظًا لهذا التخلف، وهو ما دفعه لتكريس حياته من أجل تنوير المجتمع ومحاربة آفات تقديس الموروث الجاهل وعبادة سلطة رجل الدين كسلطة مطلقة تكاد تتماثل مع سلطة السماء، ومن زاوية أخرى لتناقض ما يدعو إليه رجل الدين وما تحمله سريرته بالفعل.
 
يدور المسلسل الدرامي حول استعراض حياة الصبي طه حسين منذ عمر الأربع سنوات وحتى حصوله على درجة الدكتوراة في باريس. اللحظة الدرامية التي اختارها الكاتب لبدء روايته هي نفسها اللحظة الدرامية التي بدأ منها المسلسل حيث كان لا يزال الطفل يملك بصيص ضوء لا يعرف إذا كان بداية مساء أو بداية صباح وهو يتحسس أعواد القصب المنتصبة حيث يقصد جلسات السامر الشعبي، الذي ينشد الحكايات والمواويل وتأثير هذه الخلفية كخارطة معرفية في ذهنية المثقف المغموس في أغوار هذه البيئة القروية، إذ يمثل الحكاء أو السامر الشعبي مصدر معرفة ومتعة واتصال مع العالم القديم. 
 
وبينما غاص النص في البعد النفسي التحليلي لعالم الصبي والشخصيات من حوله فالجانب التحليلي النقدي يطغى على عناصر الرواية، في إظهار ماضي الصبي وبيئته وما يضج به عالمه والشخوص من حوله وأثر الكلمة في نفس الصبي. فإذا كان عالمنا الحسي يعج بالمشاهد والصور فإن عالم الضرير يغوص في الكلمة وبنية الكلمات، مما جعله يغوص في الوصف وعمل على تكثيف الكلمة لتحمل العبارة أكثر من دلالة واحدة، في حين تقاسم المشهد وهو المعادل المرئي للنص علاماته، فأخذت الإضاءة الخافتة مع الموسيقى الحزينة والأشعار الباكية يرسمون معًا مشهدًا عميق الكآبة والعزلة، فالموسيقى بالنسبة للضرير تساعده على إثراء خياله الدرامي وتساعده في خلق مسرحه الذهني المملوء بالعواطف وتترجم مشاعر الأبطال لتصل إلى خياله سريعًا، أما مع المتلقي العادي فهي تمثل عنصرًا مكملًا للأداء الدرامي وتتعلق ذاكرة المتلقي بالعمل من خلال الموسيقى التصويرية للعمل الدرامي فهي لا بد أن تأتي منسجمة، متناسقة مع الخط الدرامي وتتوافق كليًا مع التيمة الرئيسية، بداية المسلسل جاءت الوتريات الصادمة متقطعة، استخدم الشريعي مقام الكرد ثم الصبا وجاء صوت علي الحجار ليتقاطع مع الموسيقى  بكلمة الأيام بشكل يوحي بكون هذه الأيام لا تنتهي من الجراح أو الرجاء.
 
 وما عمق أثر العزلة هو الكادرات ذات الحيز المختنق بين عمودين أو بين حيزين ليلقي في نفس المشاهد طابعي الحزن والعزلة. وهو ما يتناقض مع رحابة حيز النص الذي اتسع ليشمل عالم أوسع من عالم الصبي المغلق المحدود كعالم الربع وحكاياته.

اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر