جمال عبد الناصر يكتب: محمود ياسين.. نبل الممثل وخلود الإنسان

الفنان محمود ياسين الفنان محمود ياسين
 
كتب : جمال عبد الناصر

 

كان محمود ياسين يمشي في الحياة كما يمشي الممثل على خشبة المسرح، واثق الخطى، يزن الكلمة بنغمتها، والنظرة بصدقها، وكأن بينه وبين الضوء اتفاقاً خفياً على الوقار والجمال، ولم يكن من أولئك الذين يطاردون الكاميرا، بل كانت الكاميرا هي التي تبحث عنه لتجد فيه معنى البطولة حين تتجسد في إنسان، وكان صوته العميق لم يكن مجرد أداة نطق، بل ذاكرة لجيل كامل آمن بأن الفن رسالة لا تُقال إلا بضمير، ومع كل دور قدّمه، كان ياسين يعيد تعريف المهابة، لا بوصفها هيبة الشكل، بل هيبة الموقف، وهيبة الفنان الذي يحترم نفسه وجمهوره.

هكذا بقي، حتى بعد الرحيل، مثالاً للفنان الذي لم تفسده الشهرة، ولم تغيّره الأضواء، بل صاغ من حضوره درساً في النبل، ومن مسيرته سيرة للفن حين يكون مرآةً للإنسان.

وفي ذكرى رحيله اليوم في الرابع عشر من أكتوبر، يعود اسمه إلى الواجهة كأحد الرموز التي جسّدت المعنى الحقيقي للفنان المصري والعربي الواعي بقيمة ما يقدم، والملتزم بفنه كرسالة إنسانية وثقافية، فمحمود ياسين لم يكن مجرد نجم شاشة، بل حالة فنية متكاملة امتدت بين المسرح والسينما والتلفزيون، وامتلك من الموهبة والحضور والثقافة ما جعله أحد أعمدة جيله وأكثرهم قدرة على المزج بين الكاريزما والعمق الإنساني في الأداء.

بدأت مسيرة محمود ياسين من خشبة المسرح القومي بعد تخرجه في كلية الحقوق، لكنه سرعان ما انحاز إلى الخشبة بوصفها مختبراً حقيقياً للتمثيل، وقدم عشرات المسرحيات التي شكلت الوعي الجمعي لجيله، مثل "وطني عكا" و"عودة الغائب" و"سليمان الحلبي" و"ليلة مصرع جيفارا"، وغيرها من الأعمال التي أكدت قدرته على التعبير بلغة الجسد والصوت والوجدان معاً، ولم يكن ياسين ممثلاً يؤدي أدواراً محفوظة، بل كان يعتلي الخشبة كمن يعيش حالة فكرية كاملة، يبحث من خلالها عن جوهر الشخصية ومعناها الاجتماعي والإنساني.

محمود ياسين
محمود ياسين

توليه إدارة المسرح القومي في أواخر الثمانينيات جاء تتويجاً طبيعياً لفنان يرى المسرح بيتاً ومسؤولية، لا مهنة عابرة، فكان حريصاً على إعادة روح الانضباط والتجريب والإنتاج النوعي إلى أهم مؤسسة مسرحية في مصر، وأنتج مسرحية من روائع أعمال المسرح القومي وهي مسرحية " أهلا يا بكوات " التي جمعت الفنانين عزت العلايلي وحسين فهمي وأخرجها عصام السيد والنص كتبه لينين الرملي.

أما في السينما، فقد استطاع محمود ياسين أن يفرض حضوره منذ بداياته الأولى بأدوار ثانوية في أفلام مثل "الرجل الذي فقد ظله" و"شيء من الخوف"، إلى أن جاءت انطلاقته الكبرى مع فيلم "نحن لا نزرع الشوك" أمام شادية، ليصبح بعدها واحداً من أبرز نجوم السبعينيات والثمانينيات، وكان صوته العميق ونطقه الفصيح وملامحه الهادئة سلاحه الخاص في التعبير عن الانفعالات الداخلية للشخصيات، مما منحه تميزاً عن أبناء جيله.

الفنان الكبير محمود ياسين
الفنان الكبير محمود ياسين

لم يكن فتى الشاشة الوسيم الذي يعتمد على الجاذبية وحدها، بل فناناً يمتلك حساً درامياً دقيقاً يجعل مشاهده أقرب إلى لحظات تأمل إنساني أكثر منها تمثيلاً، وتميز محمود ياسين أيضاً بقدرته على التفاعل مع النجمات الكبار في أروع مراحل السينما المصرية، فكوّن ثنائيات ناجحة مع فاتن حمامة وشادية وسعاد حسني ونجلاء فتحي ونادية لطفي، ويكفي أن نتأمل حضوره في فيلم "الخيط الرفيع" أو "أفواه وأرانب" أمام فاتن حمامة لنرى كيف استطاع أن يكون شريكاً فنياً حقيقياً لها لا مجرد ممثل يقف إلى جوارها.

كان يعرف تماماً كيف يوازن بين رهافة الإحساس وقوة الموقف، وكيف يترك بصمته في المشهد دون أن يطغى على من أمامه، وهي سمة لا تتحقق إلا لمن يمتلك ثقة كاملة في أدواته وفهمه العميق لفن التمثيل، ولأن الفنان الحقيقي لا يقف عند حدود التجسيد، فقد امتلك محمود ياسين وعياً خاصاً بدور الفن في تشكيل الوعي الجمعي، وانحاز في كثير من أفلامه إلى قضايا الإنسان البسيط، وإلى صورة المصري المكافح الذي يصطدم بواقع اجتماعي أو سياسي لكنه لا يفقد إنسانيته، وفي "الحرافيش" و"العاطفة والجسد" و"الجلسة سرية" وغيرها من الأعمال، نرى وجهاً آخر للفنان الذي يضع القيم قبل الشهرة، ويتعامل مع السينما كوثيقة اجتماعية لا كسلعة ترفيهية.

ورغم كثرة مشاركاته في بعض مراحل مشواره، التي جعلته يظهر في أفلام متفاوتة المستوى، فإن هذا لم ينتقص من مكانته الفنية، بل أكد التحدي الذي يواجهه أي نجم يحاول الحفاظ على حضوره في صناعة سريعة التبدل، فمحمود ياسين ظل حتى سنواته الأخيرة محافظاً على وقاره الفني، مبتعداً عن الابتذال، متمسكاً بصورة الفنان المثقف الذي يحترم جمهوره، وهو ما جعله يحتفظ بمحبته في قلوب الناس حتى بعد أن غاب عن الشاشة بسبب المرض.

رحل محمود ياسين، لكن صوته لا يزال يملأ الذاكرة بجرس لغوي لا يخطئه السمع، وصورته على الشاشة لا تزال شاهدة على زمن كان فيه التمثيل حواراً بين الموهبة والثقافة، وكان نموذجاً للفنان الذي أدرك مبكراً أن الخلود في الفن لا يُصنع بالشهرة وحدها، بل بما يتركه من أثر في الوعي، وبين المسرح القومي الذي قاده بإيمان، والسينما التي منحها أجمل سنوات عمره، يبقى محمود ياسين أحد الأعمدة التي سيظل التاريخ الفني المصري والعربي يقرأها بإجلال وحنين.

 

 


اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر