في كل ذكرى لرحيله، يتجدّد حضور يوسف وهبي كأن الزمن يأبى أن يطويه، فهو لم يكن مجرد فنان مر في سجل الفن المصري، بل كان رائدا بنى صرحا من الفكر والجمال، وأيقظ وعيا فنيا ظل حيا في أجيال تعاقبت بعده، فعاش وهبي مؤمنا بأن المسرح ليس خشبة، بل وطن، وأن السينما ليست ترفيها، بل مرآة للروح والمجتمع، ومن بين ضجيج الأزمنة، يظل صوته الرنان ووقاره الفريد شاهدين على عصر كان فيه الفن رسالة مقدسة، والتمثيل مسؤولية لا تُؤدى إلا بشغف وإيمان.
وفي تاريخ الفن المصري، تقف شخصية يوسف وهبي كعمود فقري لا يمكن تجاوزه، فهو لم يكن فنانا عابرا، بل كان ظاهرة ثقافية ومؤسسة فنية قائمة بذاتها، لقد تداخلت مسيرته كفنان شامل مع تشكيل الوعي الدرامي والمسرحي، وتأتي اهمية هذا الفنان في دوره الريادي كمؤسس ومخرج مسرح، فهو الذي حمل على عاتقه مهمة تطوير فن الخشبة في مصر، حيث أسس فرقة رمسيس الرائدة، ليصبح بجدارة عميد المسرح العربي الذي لم يكتف بالتمثيل بل قام بالكتابة والإخراج والمغامرة بتقديم فنون جديدة، وفي ذكرى وفاته نستدعي هذه القامة الفنية لنتأمل كيف شكّل هذا العبقري بأسلوبه الفريد في الأداء ، وجاذبيته الطاغية، ووعيه الاجتماعي، وجه الفن المصري والعربي لعقود طويلة.
يوسف وهبي تمر اليوم ذكري وفاته، وهو يمثل مرحلة كاملة في تاريخ الفن المصري، فهو عميدا للمسرح، ومهندسا للكاريزما، وكاتبا أدرك القوة الكامنة في الدراما الاجتماعية، ومخرجا حمل على عاتقه مهمة تثقيف وتنوير الجمهور عبر فنون الخشبة والشاشة.
• مؤسس قواعد التمثيل والإخراج في مصر

يعرف أداء يوسف وهبي بالأسلوب الوهبي لأنه متفرد ولا يوجد شبيها له فقد مزج بين التعبير المسرحي الكلاسيكي ودرامية النخبة، وتميز صوته بالقوة والقرار، وحركته على المسرح أو أمام الكاميرا كانت محسوبة بدقة، تفيض بالوقار والعمق الانفعالي، ورغم أن هذا الأسلوب قد يبدو مبالغًا فيه وفقًا لمقاييس الواقعية الحديثة، إلا أنه كان ضرورة حتمية في زمنه لتوصيل العواطف الجياشة والأفكار الكبرى إلى جمهور كان لا يزال يتلقى الفن بجمالية مختلفة، لقد كان يوسف وهبي مدركا أن الكاريزما ليست هبة، بل هي حرفة تُصنع بالإتقان اللغوي والجسدي.
- • مؤسس أكبر واهم فرقة مسرحية
يوسف وهبي أسس فرقته المسرحية " فرقة رمسيس " في عشرينيات القرن الماضي، حيث لم يكتف بتقديم مسرحيات ترفيهية، بل غامر بتقديم نصوص عالمية معقدة ومحلية جريئة، لقد حارب الجهل والتعصب ليمارس فنه، وكانت فرقته بمثابة جامعة متنقلة جابت أنحاء مصر والوطن العربي، ناشرة الثقافة المسرحية في أصعب الظروف، وكان وهبي يؤمن بأن المسرح يجب أن يكون مرآة للمجتمع ومنارة للتغيير، مما جعله عميدا بلا منازع للمسرح العربي.
وفي السينما أثبت يوسف وهبي قدرته على التكيف مع الوسيط الجديد، فلم يقتصر دوره على التقمص، بل كان مؤلفًا ومخرجًا لعدد من الأفلام التي تحمل بصمته الفكرية، أبرزها معالجته لقضايا الفقر والحرمان والإصلاح الاجتماعي، فقدم "غرام وانتقام" و"سفير جهنم" اللذان كشفا عن شغفه العميق بالدراما التي تلامس الأبعاد النفسية والأخلاقية للإنسان، وغالبًا ما كان يجسد شخصية "الآدمي" الذي يعاني أو يتألم من صراعات الحياة القاسية، بعيدًا عن صورة النبيل الأرستقراطي الذي ولد فيه.

يوسف بك وهبي
وفي أفلام العصر الذهبي للسينما، تحول وهبي تدريجيا إلى شخصية "العميد" أو "الأب الروحي" (الباشا أو المحامي الكبير)، ليصبح رمزًا للحكمة والرصانة، وهو الدور الذي ظل عالقًا في أذهان الأجيال اللاحقة، بل أنه قدم في كثير من أعماله وجها كوميديا ويظهر ذلك جليا في فيلم " إشاعة حب " مثلا، فهو مصدر البسمة في كل مشهد يظهر فيه في ذلك الفيلم الجميل الذي مازال أيقونة سينمائية .
•الرجل الذي صنع هيبة الفن وآخر النبلاء على مسرح الحياة
إرث يوسف وهبي ليس مجرد قائمة بأعماله التي تجاوزت المئات، بل هو إرساء لقواعد الصناعة الفنية في مصر والعالم العربي، لقد قدم للمسرح العربي احترامًا ومهنية لم تكن موجودة قبله، وأصبح رمزًا للمثقف الذي يجمع بين موهبة الأداء ووعي الكاتب وعقلية الإدارة، وفي ذكرى وفاته، نتذكر يوسف وهبي كالفنان الذي أدرك جيدًا أن "الفن رسالة"، وظل يحمل هذه الرسالة بكل وقار حتى اللحظة الأخيرة، مرددًا في ذاكرتنا صوته المميز: "هذا هو الفن، يا سادة" ، ومقولته الأخري الشهيرة : " وما الدنيا غلا مسرح كبير " .
رحل يوسف وهبي، لكن صوته لم يرحل، وبقي صداه يتردّد في أروقة المسارح القديمة، وفي ذاكرة شاشة ما زالت تحفظ ملامحه النبيلة ووقاره الفريد، وكان وهبي أكثر من ممثل أو مخرج، فكان ضميرا فنيا جمع بين الفكر والموهبة، بين الثقافة والجمال، بين الرسالة والإتقان، وعلم الأجيال أن الفن ليس لهوا ولا شهرة، بل مسؤولية أمام التاريخ والإنسان، وكلما مرتّ ذكرى رحيله، ازداد حضورُه بهاء، كأن الزمن يعيد اكتشافه في كل مرة، وسيبقى يوسف وهبي في وجداننا عميدا للفن العربي، ومثالا خالدا للفنان الذي عاش واقفا على خشبة الحياة، مؤمنا بأن الفن حياة تُعاش لا دور يُمثل.
وفي الختام، وبينما تحتفل الذاكرة الفنية بمرور ذكرى رحيل يوسف وهبي، لا يسعنا إلا أن نترحم على فنان وضع بنفسه أسس الفخامة والكاريزما على خشبة المسرح، ففنه ليس مجرد تاريخ يُروى، بل هو مدرسة نفتقدها اليوم في خضم السرعة والسطحية، نفتقد لعمق صوته الرنان، ووقار أدائه، والرسالة القيمة التي حملها في كل دور، ولذلك سيبقى وهبي شاهدًا على زمن كان فيه الفن ثقافة، والتمثيل مسؤولية، والممثل عملاقا.
رحم الله عميد المسرح، ستبقى أسطورته منارة تضيء طريق الأجيال القادمة."