كنتُ أعرف صوت لمياء الرياحي قبل أن أعرفها على المسرح، وكنتُ واحدًا من أولئك الذين يترددون على "نادي الطرب – رياحيات" عبر السوشيال ميديا، حيث تعبر الأغنية عابرةً للشاشات، حافلةً ببهجةٍ خفيفة، ودفءٍ نقي، وأصالةٍ تُعيدك إلى زمنٍ يبدو بعيدًا وقريبًا في آنٍ واحد. لكن ما سمعته هناك لم يكن سوى ظلّ صغير لما عشته الليلة الماضية في ساقية الصاوي.
أمس، كانت السعادة ذاتها تجلس بجواري، فلم أكن مجرد متفرّج، بل عاشق للطرب الأصيل وجد نفسه في حضرة صوت يعرف كيف يوقظ ذكريات القلب، ويعيد ترتيب نبضه، وتأكدت أن الطرب، على رغم ما يحيط به من ضجيج معاصر، ما زال يحتفظ بسحره.. وما زالت هناك أصوات تعرف كيف تحفظ هذا السحر حيًا.
على مسرح الساقية، ظهرت لمياء بكاريزما لا تتكلف، وحضور يشبه النور حين يتسلل بهدوء ثم يملأ المكان، واختارت أغاني من مصر وتونس، فبدت كمن يبني جسورًا من نغم، تعبر عليها أرواح الجمهور القادم من كل مكان: نساء مصريات وتونسيات، وجاليات عربية متعددة ملأت القاعة حتى أيام الحفل الثلاثة على التوالي، كأن كل من سمع بها أراد أن يُصغي بنفسه لهذا الصوت الذي سبقته شهرته قبل حضوره.
قبل أن تغني، قالت لمياء كلمة عن حبها لمصر، وكان في نبرة صوتها صدقٌ يجعل الجملة أقرب إلى اعتراف جميل لا خطاب مجاملة، وقالت إن نجاحها كان ناقصًا دون أن تغني في مصر، وللحظة شعرت أن مصر نفسها كانت تنتظر هذا اللقاء، وغنت "بوابة الحلواني"، وغنت من تراث مصر الكبير، فبدت كمن يعيد تقديم الروائع بلهفة العاشق لا بواجب المغني.
وفي الوقت ذاته، لم تنس لمياء جذورها، وأعادت إلينا تراث تونس الحبيب، فاهتز المكان على وقع "لاموني اللي غاروا مني"، تلك الأغنية التي يعرفها المصريون ويغنونها كأنها من تراثهم، ومع كل أغنية، كانت تضيف لمستها الخاصة، روحها الخاصة، حتى بدا وكأن الأغنية تتجدد وتولد من جديد، وحين غنت لوردة وأم كلثوم وعبد الحليم ووديع الصافي وفيروز، أحسستُ أن كل صوت من هؤلاء الكبار كان يبتسم في مكان ما، فرحًا بأن هناك من يواصل الطريق بالطريقة التي تليق به.
تميّز لمياء ليس في قوتها الصوتية فقط، بل في ذكائها الفني، فهي لا تقلد أحدًا، بل تستعير روح الأغنية وتعيد تشكيلها بطريقتها، بطعمها، بطبقتها الخاصة التي تجعلك تسمع اللحن كما لو كان يُغنّى لأول مرة، فهي مطربة تعرف "شفرات الجمهور" كما تقول، وتعرف كيف تختار له ما يحب دون أن تفقد نفسها في الطريق.
لم يكن الحفل مجرّد عرض موسيقي؛ كان مناسبة تؤكد أن الفن النسائي في العالم العربي قادر على أن يتصدر المشهد، وأن يُدهش، وأن يفرض حضوره بجمال لا يحتاج إلى صخب.
"رياحيات" ليس مجرد نادٍ للطرب، بل مبادرة نسائية تُثبت أن الموسيقى ليست مهنة بقدر ما هي شغف متاح لكل من يملك قلبًا يتسع لها، وهو مساحة تُعيد الأصالة إلى مكانها الطبيعي، وتقول إن الطرب الأصيل ليس ذكرى .. بل هو حاضر نابض ما دام هناك من يغنيه بصدق.
وفي نهاية الليلة، حين انطفأت الأنوار، بقي صوت لمياء الرياحي يتردد في الذاكرة، كأن شيئًا جميلًا حدث، وما زال يحدث، وسيظل يحدث كلما صعدت هذه الفنانة إلى المسرح.