جمال عبد الناصر يكتب: خيرية أحمد.. كوميديا بطعم البراءة وذكاء الأداء

الفنانة خيرية أحمد الفنانة خيرية أحمد
 
كتب جمال عبد الناصر

خيرية أحمد واحدة من المواهب النادرة التي لا تُشبه أحدًا، كوميديانة من طرازٍ خاص، تمتلك بصمتها التي لا تُخطئها أذن ولا يغفلها خيال، وهي لم تعتمد يومًا على الإفيه الجاهز ولا على الضحك السهل، بل صنعت مدرستها الخاصة في الكوميديا؛ مدرسة تقوم على الذكاء في الأداء، والتقاط التفاصيل الصغيرة في الشخصية، وتحويل المواقف اليومية البسيطة إلى لحظات ضحك خالدة.

ظهرت خيرية أحمد كأنها ضوءٌ يأتي من مكانٍ آخر؛ خفيفة الظل، حاضرة البديهة، وصاحبة قدرة فريدة على المزج بين العفوية والدقة، بين الطرافة والصدق، ومن خلال هذا الأسلوب المتفرّد أصبحت واحدة من أهم الكوميدانات في تاريخ الفن المصري، وصوتًا نسائيًا مميزًا استطاع أن يفرض حضوره في زمنٍ لم يكن يمنح المرأة مساحة واسعة للتعبير الكوميدي.

خيرية أحمد كوميديا لها قلب وروح؛ لا تضحك فقط، بل تُشعرك بأنها تروي حكاية من لحم الحياة ودمها، حكاية تضحكك لأنها تشبهك… وتدهشك لأنها صادقة.

حضورها الفني لم يكن امتدادًا لأحد، بل كان عالمًا منفردًا صنعته بخطواتها الأولى حين التحقت بفرقة المسرح الحر، لتدخل بعدها إلى فضاء الفن بقلبٍ مفتوح على الضوء، وفي خمسينيات القرن الماضي، انطلقت خيرية أحمد إلى الشهرة عبر برنامج " ساعة لقلبك" بإذاعة القاهرة، ذلك البرنامج الذي شكل مدرسة كاملة للكوميديا الشعبية الذكية، ولم تكن مجرّد ممثلة ضمن فريقه، بل كانت روحًا نابضة تستحوذ على الانتباه بحساسيتها الكوميدية الفطرية، وبطريقتها المميزة في إطلاق الإفيه، التي تجمع بين التوتر الطريف والدهشة الطيبة التي اشتهرت بها. ومع انضمامها إلى فرقة ساعة لقلبك المسرحية ثم إلى فرقة إسماعيل ياسين، بدأت موهبتها تتخذ طابعًا أكثر نضجًا، ثم واصلت رحلتها في فرقة الريحاني وفرقة أمين الهنيدي والمسرح الكوميدي، لتصبح أحد أبرز وجوه المسرح المصري في الستينيات والسبعينيات.

الراحلة خيرية أحمد
الراحلة خيرية أحمد

ولا يمكن الحديث عن خيرية أحمد دون التوقف عند جملتها الشهيرة في الحلقات الكوميدية " ساعة لقلبك "، وهي تنادي فؤاد المهندس: (مَحمووووووود!) ذلك النداء الذي صار جزءًا من ذاكرة الكوميديا المصرية، ومن موروث الإفيه الصوتي الذي لا ينسى، إذ كانت تنطق الكلمة بنبرة تجمع بين الاحتجاج الطريف والدهشة المضحكة والخوف الطيب، ما جعلها علامة مسجلة بإيقاعها الخاص.

على خشبة المسرح، كانت خيرية أحمد حالة خاصة، فقدمت أعمالًا صغيرة في شكلها، كبيرة في تأثيرها، مثل مراتي بنت جن، عبد السلام أفندي، الرضا السامي، العبيط، أختي سميحة، الطرطور، طبق سلطة، كلام رجالة، نقطة الضعف، ومهرجان الحرامية، ومع محمد عوض، صنعت ثنائيًا كوميديًا بالغ الحيوية، اعتمد على سرعة البديهة والتكامل بين طريقتيهما في الأداء.

أما في السينما، فقد تركت بصمة حقيقية، رغم أن كثيرًا من أعمالها كانت تنتمي إلى الكوميديا الاجتماعية الخفيفة، لكنها دخلت قلوب الجمهور في أفلام مثل : " حماتي ملاك، الطريق المسدود، امرأة مطلقة حيث قدمت دور الأخت الغيورة بشكل ساخر وحنون في آن واحد، إضافة إلى أميرة حبي أنا، وإحترسي من الرجال يا ماما" كان حضورها السينمائي لطيفًا ومميزًا، يعتمد على المزج بين البراءة والحدة الطريفة، وهو ما جعل شخصياتها قريبة من الناس.

وفي التليفزيون، تألقت خيرية أحمد في عدد كبير من الأعمال التي رسخت مكانتها كإحدى أيقونات الدراما الكوميدية والاجتماعية، وقد حاز مسلسل " ساكن قصادي" مكانة خاصة لدى الجمهور، إذ قدمت فيه واحدة من أنجح وأطرف الشخصيات، شخصية المرأة التي تدخل إلى الموقف بقلب صادق ولسان حاضر ودهشة دائمة تثير الضحك من بساطتها، كما تألقت أيضًا في مسلسلات "العائلة"، "أحلام اليقظة"، "صباح الخير يا جاري العزيز"، "أين قلبي"، "الحقيقة والسراب"، "حدائق الشيطان"، "سوق الخضار"، "عفاريت السيالة"، وغيرها، لتثبت أنها ممثلة لا تعتمد على قالب واحد، بل تمتلك قدرة كبيرة على التنقل بين الكوميديا والدراما.

خيرية أحمد كانت أيضًا زوجة الكاتب الراحل يوسف عوف، وقد شكّلا معًا علاقة فنية وإنسانية رقيقة، جمعت بين قلب فنان وروح كاتب، وبرغم مراحل المرض والتعب، بقيت خيرية أحمد وفية للفن حتى آخر نَفَس، وظلت تعمل وتشارك وتتحرك بين المسرح والسينما والتليفزيون بإصرار لا تعرف معه الراحة، وكأن الفن هو الهواء الذي كانت تتنفسه.

رحلت خيرية أحمد عن عالمنا في 19 نوفمبر 2011، لكن روحها لا تزال عالقة في ذاكرة المشاهد المصري، ضحكتها، طريقة كلامها، عفويتها، وانتماؤها لجيل صنع كوميديا إنسانية لا تقوم على التهريج بل على الفكرة والبساطة والموقف، ولقد تركت إرثًا طويلًا من المحبة والبهجة، وستبقى دائمًا واحدة من تلك الأرواح النورانية التي مرت بالفن لترسخ معنى الضحكة الصادقة.

رحم الله خيرية أحمد… الفنانة التي لم تذهب من قلوب محبيها.


اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر