" لا تمثّل أبداً… بل عِش الدور "، هكذا وضع ستانسلافسكي حجر الأساس لفن التمثيل الحديث، وهي القاعدة التي يمكن من خلالها قراءة تجربة سناء جميل بوصفها واحدة من أنقى تجليات هذا المنهج في الفن العربي.
سناء جميل.. سيدة التفاصيل، لم تكن تؤدي الشخصية بقدر ما كانت تنفذ إلى دوافعها العميقة، وتبنيها من الداخل إلى الخارج، حيث يسبق الإحساس الفعل، ويتحوّل الصمت إلى لغة، والنظرة إلى خطاب كامل.
في أدائها، لم تكن الحركة زائدة ولا الانفعال مفتعلًا، بل نتيجة طبيعية لفهم نفسي وإنساني بالغ الدقة، يجعل الشخصية كائنًا حيًا يتنفس داخل المشهد لا عليه، ومن هنا، لم تتأسس عظمتها على البطولة أو المساحة، بل على قدرتها النادرة على الإمساك باللحظة الهشة، تلك التي لا يراها إلا الممثل الحقيقي، وتبقى بعد انتهاء العرض في ذاكرة المتفرج شاهدًا على فن لا يشيخ ولا يكرر نفسه.

سناء جميل
في ذكرى رحيلها في 22 ديسمبر 2002، لا نستدعي سناء جميل بوصفها ممثلة غابت، بل كحضورٍ لا يزال يقاوم الغياب، فهي لم تتعامل مع التمثيل بوصفه حرفة أو مهارة مكتسبة، بل كقدرٍ وجودي، وكانت تقرأ الدور كمن يقرأ مصيره، وتتعامل مع الشخصية بوصفها كائنًا حيًا له تاريخ نفسي واجتماعي وجسدي، ومن هنا جاء أداؤها ممتلئًا بالصدق، متحررًا من الزينة، قاسيًا حين يلزم، هشًّا حين يتطلب الموقف، لكنه دائمًا حقيقي، لا يساوم ولا يتجمل.
في أدوارها السينمائية، وخصوصًا تلك التي واجهت فيها المجتمع بمرآة قاسية، بدت سناء جميلة وهي تهزم التوقعات، فلم تكن البطلة التقليدية، بل كانت بطلة المأساة الإنسانية، المرأة التي تحمل جرحها على مهل، وتكشفه بلا صراخ، وكانت تعرف متى تتكلم ومتى تصمت، وكيف تجعل من الصمت خطابًا كاملًا، ومن النظرة تاريخًا مكثفًا للشخصية، وهنا، كما يشير الراحل مصطفى سليم في كتابه عنها " سناء جميل: البصمة المتفردة في فن الممثل "، تتجلى عبقريتها في إدارة الانفعال لا في إطلاقه، وفي ضبط الطاقة الداخلية لا في استعراضها.
وعلى المسرح، كانت سناء جميل ابنة الخشبة الشرعية، فحضورها لا يعتمد على المبالغة، بل على التركيز الكثيف، وكانت تتحرك وكأنها ترسم فضاء العرض بخطواتها، وتبني الإيقاع مع النص لا فوقه. لم تكن تؤدي الشخصية فقط، بل كانت تدخل في حوار عميق مع الكاتب والمخرج والجمهور، فتتحول الشخصية إلى سؤال مفتوح، لا إجابة جاهزة، ولهذا، بدت أدوارها المسرحية، كما يوضح الكتاب، امتدادًا لرؤيتها الفكرية للفن، لا مجرد محطات في مسيرتها.
ما يميز سناء جميل، ويمنحها خلودها الخاص، هو قدرتها النادرة على التماهي دون الذوبان، وكانت تعيش الشخصية كاملة، لكنها لا تفقد وعيها الفني، وتعرف حدودها، وتدرك متى تتراجع خطوة لتمنح المشهد توازنه، وهذا الوعي الحاد بأدواتها جعل أداءها يبدو بسيطًا، بينما هو في جوهره معقّد، مشغول على طبقات نفسية دقيقة لا تُرى من النظرة الأولى.
في ذكرى رحيلها، لا نرثي سناء جميل، بل نحتفي بها، نحتفي بممثلة جعلت من الألم جمالًا، ومن القسوة معرفة، ومن التمثيل فعلًا أخلاقيًا قبل أن يكون فعلًا فنيًا، فقد رحلت في 22 ديسمبر 2002، لكنها تركت لنا إرثًا لا يشيخ، وصوتًا لا يصمت، وأداءً يذكّرنا، كل مرة، بأن الفن الحقيقي لا يموت، بل يتجدد كلما تذكرناه بصدق.