محمد الدسوقى رشدى يكتب: نساء نجيب محفوظ السبعة

نجيب محفوظ نجيب محفوظ
 

أهم 7 نساء فى حياة أديب نوبل.. أولهن "المومس" وثانيهن العشيقة وثالثهن الضحية وآخرهن المثقفة

وحده نجيب محفوظ هو الذى استطاع أن يهزم شاشة السينما.. استطاع بالورقة والقلم أن يرسم صورة، ويقدم مشاهد من زوايا مختلفة تفوقت على تلك المشاهد التى صنعها المخرجون بكاميراتهم لروايته، كل شخصية من شخصيات رواياته كانت تنبض بالحياة على الورق قبل أن يسعوا لإعادة بعثها على شاشة السينما مرة أخرى.. كل بطل وكل حارة وكل حدوتة وكل قصة حب فاشلة وكل نهاية سعيدة كنا نشاهدها على ورق روايات نجيب محفوظ دون الحاجة إلى مخرج وكاميرات وممثلين ودار عرض، كل رواية محفوظية كانت كذلك.. دار عرض ورقية يشاهد بداخلها الجمهور أروع فنون التعبير والتمثيل.

فى عالم نجيب محفوظ لكل شىء طعم مختلف، ومعنى آخر غير الذى تدركه العقول فى الوهلة الأولى، فى عالم نجيب محفوظ نشاهد أنفسنا وخطايانا وأحلامنا وهى تسير أمامنا بجوار خطوط حواديته الدرامية، فنطلق تلك التنهيدة المعتادة، إما تحسرا أو فرحا بذكرى ما، كنا نسعى خلف استعادتها.. كل شىء فى عالم أستاذ الرواية كان يدهشنا رغم أنه جزء منا، وكان يدفعنا لإعلاء قيمة الإنسانية حتى لو لم نكن نفعل ذلك على أرض الواقع.. انظر إلى نساء روايات نجيب محفوظ وستدرك ذلك، انظر إلى البغايا والخاطئات اللاتى منحهن مساحات واسعة فى حكاياته، وتذكر ذلك الشعور الغريب بالتضامن والقدرة على الغفران التى تتملكك وأنت تقرأ حدوتة «نور» فى «اللص والكلاب»، أو «حميدة» فى «زقاق المدق»، أو «ريرى» فى «السمان والخريف»، أو «نفيسة» فى «بداية ونهاية».. راجع موقفك من شادية ونادية لطفى وسناء جميل وأنت تشاهدهن فى تلك الأفلام المأخوذة عن الروايات السابقة، وتذكر كيف تعاطفت معهن رغم كرهك للخطيئة، وكيف حاولت أن تبحث لهن عن مبرر رغم وجود رغبة ملحة بداخلك فى حرقهن بجاز.

فى «القاهرة الجديدة» أو «القاهرة 30» و«زقاق المدق» و«السراب» و«بداية ونهاية» والثلاثية و«اللص والكلاب» و«السمان والخريف» و«الطريق» و«ثرثرة فوق النيل» و«ميرامار» لم يكن نجيب محفوظ يقدم مبررات لخطايا النساء وانحرافهن كما يعتقد البعض، كان نجيب محفوظ يبحث عن ذلك الهامش الإنسانى البعيد عن التلوث، وعن تلك الروح أو بقاياها الطاهرة بداخل كل بنى آدم، ويسعى لإعلائه فوق كل شىء وكأنه يقول للعالم لا تتعجلوا الحكم على البشر.. انظروا إلى الداخل ستجدوا النور راقدا فى مكمن ما ولكنه يحتاج إلى طاقة.. والطاقة لا يفتحها الاضطهاد أو النبذ والاحتقار.

قدم نجيب محفوظ هذه المعادلة فى كثير من رواياته، منح المرأة غير العادية فرصة للظهور على حساب المرأة التى تهوى السير بجوار القطيع، كان كأى روائى يبحث عن الشخصيات التى تملك تفاصيل وتملك ماتقوله حتى لو كانت منحرفة أو «مومس».. هذه الخلطة خلقت بطلات من نوع خاص لا يمكنك أن تجدهن سوى فى روايات نجيب محفوظ، وبالتبعية خلقت نجمات للسينما شاركن نجيب محفوظ فى جرأته وقدمن هذه الأدوار على الشاشة، فتحولن إلى نجمات وعلامات بارزة فى تاريخ السينما.. ومن بين بطلات نجيب محفوظ ونسائه، ومن بين النجمات اللاتى جسدن تلك الشخصيات المختلفة على شاشة السينما هناك سبع علامات نسائية بارزة فى تاريخ رواياته وتاريخ السينما:

 

1 - شادية.. «نور» فى اللص والكلاب و«زهرة» فى ميرامار!

لم يسلم أحد فى مصر ولا فى الوطن العربى من ملامح هذه السيدة، فمن لم يسقط هائما فى رموشها، سقط مغشيا عليه حينما سمع صوتها، ومن لم تأسره نظرات عينيها، تسجنه ابتسامتها، ومن لم يذب فى جمال خطواتها، يموت فى التراب اللى بتمشى عليه، ومن لا يسعده الحظ ولا تزوره فى أحلامه، يستدعيها ليلا من صور الصحف، ومن الملامح القابعة فى خلايا ذاكرته.. نجيب محفوظ كان واحدا من ضمن هؤلاء الذين سقطوا فى هوى شادية، مثلما سقطت هى فى هوى شخصياته ورواياته وقدمت للسينما 4 من أبرز نساء نجيب محفوظ بداية من «نور» فى «اللص والكلا»، ومرورا بـ«حميدة» فى «زقاق المدق»، و«كريمة» فى «الطريق» وانتهاء بـ«زهرة» فى «ميرامار».

شادية

شادية
 

وأداء شادية للشخصيات الأربع لم يكن من الفراغ أو من قبيل الصدفة.. النجاح وحده هو الذى كان يجذب روايات نجيب محفوظ لشادية ويجذب شادية لروايات نجيب محفوظ وشخوصه.. صنعت منها هذه الشخصيات نجمة بارزة وزادتها نضجا وأبعدتها عن مساحة البنت الشقية والمطربة خفيفة الظل، ووضعتها ضمن صفوف النجوم الأولى، وهى أيضا الوحيدة- طبقا لكلام أديب نوبل- الفنانة الوحيدة التى نجحت فى تقديم شخصياته النسائية على شاشة السينما، وقد قال فى ذلك: «إن شادية ممثلة عالية القدرة وقد استطاعت أن تعطى سطورى فى رواياتى لحما ودما وشكلا مميزا».

من بين نساء نجيب محفوظ الأربع اللاتى قدمتهن شادية سأتوقف أمام «نور»، تلك المعزوفة الرائعة التى قدمتها شادية فى تحفة نجيب محفوظ «اللص والكلاب».. أنت أمام حالة غريبة، بطل تنكرت له زوجته وابنته وباعه صديقه، ولم يجد بجواره سوى بائعة هوى منحته نفسها وبيتها وأمنها مقابل حمايته من كل شىء من الشرطة ومن الرغبة فى الانتقام ومن نفسه، ولم يقدم لها شيئا فى المقابل.

بحث نجيب محفوظ بداخل «نور» بائعة الهوى فوجد أشياء أخرى بخلاف الضحكات الرقيعة والمعطيات الجنسية.. وجد نموذجا للإخلاص فى الحب والوفاء قدمته شادية رغم تناقضه فى قالب بديع سرق تعاطف الناس معها ومع حبيبها المجرم الهارب. ظلت نور تقدم لسعيد مهران الحب والإخلاص وتتطلع لأى مشاعر تتدفق من داخله بغير ملل، وفجأة أخفاها نجيب محفوظ وقطع خطها الدرامى دون أن يمهد لذلك، وكأنه أراد أن يقول للجميع إن النور الوحيد فى حياة سعيد مهران الذى خذلته الخيانة وخذلته نفسه اختفى باختفاء بائعة الهوى التى ظل متحفظا على منحها الحب أو الثقة.

 

2 - نادية لطفى.. «ريرى» فى السمان والخريف!

لم تكن نادية لطفى بتلك الروعة التى بدت عليها فى الأعمال التى قدمها نجيب محفوظ للسينما، وهل يتذكر أى مشاهد دورا لنادية لطفى أبرع من «ريرى» فى «السمان والخريف»، أو عشيقة السيد عبدالجواد فى الثلاثية؟!

نادية لطفى

نادية لطفى
 

فى «السمان والخريف» وضع نجيب ثلاث شخصيات نسائية حول البطل عيسى، هى خطيبته الأولى ابنة عمه سلوى، وعشيقته ريرى، وزوجته قدرية.. عيسى فقد وظيفته بعد أحداث ثورة 1952 فما كان من سلوى إلا أن فسخت الخطوبة، وهرب عيسى إلى بيئة أخرى، وسكن الحى اليونانى فى الإسكندرية وبدأ علاقته مع المومس «ريرى».

«ريرى» القادمة من القرية كانت ترغب فى أن تقطع صلتها بالماضى ولكنها لم تجد سوى مستقبل ينتهك جسدها وكرامتها بعد أن خدعها شاب باسم الحب وألقاها بالإسكندرية، ارتمت فى أحضان عيسى وقدمت نادية لطفى فى هذا الجزء من الحدوتة أداء بارعا ومختلفا لكيفية تحول الفتاة البسيطة إلى فتاة ليل، ثم عادت وبرعت وأبكت قلوب الجميع حينما طردها عيسى بعد أن صارحته بخبر حملها، ثم قدمت أروع مشاهد عمرها حينما جلست خلف نافذة المقهى تنظر لعيسى كأنها تتوسل الأمل لتصنع بهذا المشهد أسطورتها السينمائية تحت إشراف نجيب محفوظ.

 

3 - سعاد حسنى.. «إحسان شحاتة» فى القاهرة 30!

من بين كل روائع سعاد حسنى لا أنسى أبدا براءتها المزيفة فى «القاهرة 30».. لا أنسى حزن عيون إحسان ولا حواراتها مع على طه، لا أنسى ذلك التناقض الظاهر بين كل مايحتويه القلب وكل مايريده العقل.. فى «القاهرة 30» أو «القاهرة الجديدة» قدم نجيب محفوظ سعاد حسنى كما لم تظهر على الشاشة من قبل.. شقية بهدوء، بريئة بفجاجة، عاشقة بدون صدق، حمل وديع يضحى دون أن يكتسب أى تعاطف من الجمهور.

سعاد حسنى
سعاد حسنى

إحسان شحاتة خطيبة الاشتراكى على طه متورطة فى مأساة تجعلها فى صراع دائم مع نفسها، فهى ذات طموحات طبقية من جهة، وهى واحدة من أسرة فقيرة تدفعها أمها للزنى وطريق الليل بإشراف أبوى فتقع فى مأزق الحيرة وسرعان ما تخرج منه إلى أحضان أحمد مظهر لتبدأ ملحمة «القاهرة 30» وظهور الشخصية الأسطورية محجوب عبدالدايم..

4 - سلمى حايك.. حميدة التى أصبحت «ألما» فى زقاق المدق المكسيكى!

لا أعرف إن كنت تعرف أن سلمى حايك قدمت شخصية «حميدة» بطلة رواية «زقاق المدق» فى فيلم مكسيكى يحمل نفس الاسم أم لا؟.. ولكن دعنى أخبرك بأن ماقدمته شادية فى الفيلم المصرى المأخوذ عن نفس الرواية أعظم وأجمل وأروع بكثير مما فعلته سلمى حايك فى الشخصية.

حميدة فى زقاق المدق شخصية ضد الرتابة والملل تخترق العادات والتقاليد وتعمل مرآة تعكس مايدور فى النفوس المختلفة لأهل الحى..حميدة كما خلقها محفوظ فى زقاق المدق كانت رمزا لثورة إنسانية غفلت عن تحصين نفسها، أرادت كسر القواعد دون وعى فوقعت فى دائرة أخرى قاسية.. دائرة الخطيئة لتكون خير تحذير لكل حالم بغير عالمه.

سلمى حايك
سلمى حايك

شادية نجحت فى أن تنقل تلك الصورة بكل تفاصيلها، وسلمى حايك جاءت خلفها بمراحل، ولكن ربما نجحت فى أن تنقل صورة ملائمة لمجتمعها، خاصة أن الفيلم المكسيكى نقل الأحداث على أنها داخل حى فقير فى وسط العاصمة مكسيكو، وتدور أحداثه حول الفتاة الفقيرة «ألما» التى تنقل للمجتمع صورة جديدة من صور التمرد.. ويكفى أن سلمى حايك نجحت فى أن تحصد بهذا الفيلم أكثر من 26 جائزة.

5 - سناء جميل.. «نفيسة» فى بداية ونهاية!

«نفيسة» فى بداية ونهاية لا تختلف كثيرا عن حميدة فى زقاق المدق.. نفس أزمة التقاليد والعادات والسعى نحو تخطيها أو كسرها بدون وعى.. سناء جميل وجدت فرصة عمرها فى هذا الدور، وقدمت نفسها للجمهور من خلال تفاصيل تلك الشخصية المعقدة والمرتبكة.. كان من حظ سناء جميل وربما من حظنا أيضا أن فاتن حمامة رفضت هذا الدور فرشح المخرج صلاح أبوسيف سناء جميل مكانها، لتحقق شهرة كبيرة بهذا الفيلم الذى أنتج عام 1960

سناء جميل

سناء جميل
 

القدر كأنه كان يعرف أن فاتن حمامة لا تصلح لأن تكون واحدة من ضمن نساء نجيب محفوظ الجريئات وغير العاديات، فأهدى الدور لسناء جميل التى أبدعت وحصدت ثمار إبداعها دورا تحول إلى أيقونة فى السينما حتى لو خانها حظها السينمائى بعد ذلك.

قدمت سناء جميل شخصية نفيسة، تلك الفتاة التى بدأت شريفة ثم مات والدها واضطرت للعمل خارج البيت خياطة لإعالة إخوتها وأمها.. وعاشت عنوسة قاتلة بكل تفاصيلها النفسية والسلوكية المرتبكة، فبحثت عن المتعة عن طريق البغاء فى السر والخفاء، كل ذلك أدى بها إلى الانتحار بعد محاولات دائمة لاستخدام السخرية كحل لمواجهة متاعب حياتها.

6 - ماجدة الخطيب.. «سمارة» فى ثرثرة فوق النيل!

الكل كان يثرثر فى «ثرثرة فوق النيل» حتى سمارة التى حاولت أن تظهر بصورة مختلفة بثرثرة مفيدة، وإن كانوا هم، أى رجب وسنية وليلى زيدان، يثرثرون فى الجنس والحشيش، كانت هى بالنسبة لهم تثرثر فى السياسية وكلام التقاليد والوطن الخايب.

ماجد الخطيب

ماجد الخطيب
 

دور ماجدة الخطيب فى ثرثرة فوق النيل أو شخصية سمارة ربما لا تجد فيه شيئا مغريا بقدر إغراء دور ليلى زيدان الذى أدته سهير رمزى بإجادة، ولكن ميزة سمارة هنا أنها كانت عين نجيب محفوظ التى زرعها فى الرواية لمراقبة شخوصها وتفاصيل حياتهم.

سمارة كانت نمطا مختلفا عن الشخصيات التى اعتاد نجيب محفوظ أن يقدمها.. فلأول مرة تجد نفسك أمام سيدة من نساء نجيب محفوظ تمتلك الجرأة وتتحرك بحرية وتكسر القواعد ولكن بوعى، وربما كان ذلك هو سبب اختيار نجيب محفوظ وظيفة صحفية لها.. أبعدها نجيب محفوظ عن تعاطى الحشيش وجعلها مراقبة للعوامة وشؤونها، كأنه يريد أن يقول لنا: دائما هناك عدسة تراقب الكل وتسجل أخطاءه!

 

7 - آمال زايد.. الست أمينة زوجة السيد عبد الجواد فى الثلاثية!

الخليط النسائى فى الثلاثية كان عجيبا، ولن تجد له مثيلا فى الرواية العربية. صنع نجيب محفوظ الشخصيات النسائية فى (بين القصرين ،قصر الشوق، السكرية) وكأنه قرر سلفا أن يعبر عن نساء مصر كلهن، وبناء على ذلك أظهر فى الجزء الأول من الثلاثية «بين القصرين» هنية الزوجة الأولى للسيد أحمد عبدالجواد ذات الرغبات الجنسية الجامحة، والتى تحدت زوجها حتى فازت بالطلاق، ثم جاء بامرأة على عكسها تماما هى الزوجة الثانية أمينة، تلك المرأة التى تحولت إلى نموذج للسيدة المستكينة ورمز للقهر الذكورى.

امال زايد
امال زايد

الفنانة آمال زايد ربما لا يعرفها الكثيرون، وربما لم تقدم كثيرا من الأدوار الناجحة، ولكن حظها كان جيدا حينما وقعت فى شباك إحدى روايات نجيب محفوظ لتتحول بذلك الدور الذى يصنفه السينمائيون بالهامشى أو غير الرئيسى إلى أيقونة سينمائية واجتماعية. هدوء أمال زايد وفهمها الواضح للدور وأبعاده ساهم كثيرا فى منح الشخصية التى كتبها نجيب محفوظ على الورق الكثير من الحياة على الشاشة رغم هدوئها وانكسارها، نبرة صوت أمال زايد وطأطأة رأسها الشهيرة صنعت من الدور الصغير علامة سينمائية ستبقى للأبد، وعلامة اجتماعية سيظل الناس يضربون بها المثل، وستظل المرأة خائفة من السقوط فى ذلك الفخ الذى أصبح اسمه الست أمينة زوجة السيد أحمد عبد الجواد.


اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر