سباسيبا بولشويا 6.. يوميات مصرى فى روسيا

مشجع مصرى مشجع مصرى
 
مازن أمان الله

يومان كاملان فى عاصمة القياصرة، لا أصدِّقُ جمال هذه المدينة، أهل سان بطرسبرج يحتفون حقاً بكل هؤلاء المشجعين، المدينة لا تنام، المطاعم والحانات والمقاهي، محال البقالة، الصيدليات، حتى الشمس لم تغرب طوال يومين كاملين.

أفطرُ فى مطعم أمام الفندق، أطلبُ طبقاً من الأجبان المشكلة وقطعاً من الخبز، أغمسُ قطعة من الخبز فى طبق الزيت الفخارى البنى الصغير أمامي، أتذوقه متوقعاً طعم زيت الزيتون، ولكن... ما هذا؟!

إنه زيت، لكنه ليس زيت زيتون، أعرفُ هذا الطعم، لكنه قوى جداً عما اعتدته، الذاكرة لا تسعفنى ما هذا الطعم، سألتُ النادلة فأجابتنى ببساطة: زيت عباد الشمس، كان طعم "اللب السورى" هو ما أفتشُ عنه فى ذاكرتى.

أحقاً؟ هل زيت عباد الشمس بهذه الجودة؟ هل طعمه ورائحته بهذه القوة؟ أيتناولونه هنا كما نتناول زيت الزيتون؟ إذا فما كنه السائل الأصفر الباهت، الذى يباع لدينا فى عبوات ذهبية وعليه صور حقول عباد الشمس؟ إنه لا يمت بصلة لهذا الذى أمامى.

أما العسل، المقدَّم أيضاً فى طبق مماثل لطبق الزيت، فرغم أننى تذوقتُ عسل السدر الأفغاني، واشتريتُ أفخر أنواع العسل اليمنى من صنعاء، وأبهرتُ بائع عسل جبلى فى الطريق لأوريكا بالمغرب، بسبب خبرتى فى العسل وطرق اختباره، أُجْـزِمُ بأننى لم أتذوق عسلاً بهذا الطعم الشهى من قبل.

شردت عيناى فى اللاشيء وأنا أفكرُ لماذا الطعام هنا بهذه الجودة، لماذا السماء هنا بهذه الزُّرقة، لماذا لم أُولدُ هنا؟!

اكلات بروسيا (4)
 
 

نفضتُ الأسئلة الوجودية عن رأسي، مع تناول القهوة السوداء، أثناء تدخين غليونى خارج المطعم، أعدتُ الكوب وقررتُ السيرَ فى اتجاهٍ لم أستكشفه من الشارع الذى أقطنه.

أسير خمس دقائق لأجدَ عجوزاً تبيعُ التوت الأحمر، والأزرق والكرز، أدقِّــقُ فى الأسعار ولا أُصدِّق، هناك خطأ، أستخدمُ تطبيق جوجل للترجمة، فتؤكد العجوزُ أن هذا سعر الكيلو، إنه لا يتجاوز دولارين، أنقدها حوالى نصف دولار بالعملة المحلية، فتحاولُ أن تسألنى عما سأشتري، أحاولُ التوضيح لها أننى فقط أريدُ تذوقَ حبة واحدة من كل صنف، لا تفهم. أمدُّ يدى وآخذُ حبة من كل نوع وأتناولها وهى تنظرُ لى فى حيرة، تعتقدُ أننى سأختارُ ما أشتريه بناءً على الطعم، لكننى أقولُ لها: "سباسيبا" بالروسية، فلا تفهم، وعندما أنصرفُ من أمام بضاعتها على الرصيف، تجرى خلفى مبتسمة وتعيدُ لى نقودي، أحاولُ أن أشرحَ لها أننى فقط أردتُ التذوق، وهذا ثمنُ ما تذوقته، فترفض وتعود لى بكيس بلاستيكى صغير فيه حبات انتقتها من بضاعتها على الرصيف مع نقودى.

اكلات بروسيا (7)
 

أشعرُ بالحرج من كرم هذه البائعة، أحاولُ مرة أخرى أن أدفع لها، فتشير لى بأن انصرف، هل اعتقدتْ أننى لا أملكُ ثمن طعامي؟ ملابسى لا توحى بأننى مشرَّد...!

أتركها وأسيرُ خطوتين، فأجد أُماً تدفعُ عربة رضيع، تحاولُ دخول محل، لكن المزلاج المثبت أعلى الباب، لإبقائه مغلقاً لحفظ الدفء فى الشتاء، يحولُ دون دخولها، أفتحُ لها الباب، وأساعدها لتتسلل رائحةُ مخبوزات شهية عبر فتحتى أنفى إلى خلايا التذوق فى المخ، بل أُقسمُ أننى طعمتها فى لساني، تشكرنى الأُم قائلة: "سباسيبا" فأحاولُ الرد بالروسية أن عفواً، فأُخطئ النطق فتصحِّح لى مبتسمة: باجووستا، تقولها متهجئة الأحرف كأنها تُعلم طفلها الرضيع...!

أبتسمُ وأتركها مسرعاً لأخذ جولة فى المكان، المعدة مليئة بإفطار شهي، لم يستقر أكثر من 10 دقائق، ولا مكان لكل ما أمامى من مسيلات اللعاب، كما أننى قررتُ أين سأتغدى اليوم، ما العمل؟!

اكلات بروسيا (10)
 
 
اكلات بروسيا (8)
 
اكلات بروسيا (9)
 
 
اكلات بروسيا (5)
 
 
اكلات بروسيا (11)
 
أحدِّدُ ما سأتذوقه هنا، وأقرِّرُ أن آتى للإفطار هنا صباح الغد.
 

لم أشترِ تذكرة مباراة مصر وروسيا، اشتريتُ تذكرتين للمباراتين الأخريين للمنتخب المصري، لأن عدداً كبيراً من الأصدقاء الروس- العرب، حذرونى من احتمال وقوع شغب أو أحداث عنف عقب المباراة، نعم أنا هنا لأشجع صلاح، لكننى الآن فى الثامنة والثلاثين، ولم أكن يوماً رياضياً ولا سريعاً فى الجرى أو بارعاً فى عراك الشوارع، إذاً السلامة الشخصية أولوية، لكننى سأقومُ بواجبى كمشجع تجاه محمد صلاح، وهكذا أخذتُ علم صلاح وبدأتُ مسيرة طويلة.

اكلات بروسيا (6)
 
 

المسافة من الفندق إلى منطقة التشجيع، التى أعدَّتها شركة مصرية راعية للمنتخب، استغرقتْ ضعف المقرر، فلم أستطِع السير لمدة 10 دقائق متصلة من دون التوقف لمثلها أو أكثر...!

مصريون، مغاربة، إيرانيون، برازيليون، سعوديون، وبالطبع أهل البلد من الروس، توقفتُ عن حصر الجنسيات، أُسر مع أطفالهم، شباب وبنات، حرفياً كل من انتبه للعلم، كان يوقفنى ليلتقط صورة مع العلم، باستثناء الروس كانوا أيضاً يحرصون على التقاط صورة معى شخصياً، ـبعد ساعة اعتقدتُ أننى سأكونُ وجه اليوم، والأكثر انتشاراً على صفحة "فى كونتاكت" وهو الموقع الروسى البديل لكل مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعى التى نعرفها.

 
اكلات بروسيا (1)
 

6 ساعات تقريباً، أرفعُ علم محمد صلاح، وأقطعُ به شوارع مدينة سان بطرسبرج، فخور به، وفخور بأننى أشجعه، هذا الرجل لا يعلم كم محبته فى القلوب، والأمر لا يقتصر على مصر والوطن العربى، بل تجاوز ذلك، الأطفال يهتفون باسمه، وينبهون ذويهم للعلم، كانت رحلة مرهقة حقاً، قدماى متعبتان، والمعدة تطلب حقها مما وعدتها به...!

اشتقتُ للأرز، اليوم لا مزيد من البطاطس تحت أى شكل من الأشكال. بحثتُ عن مطعم بنكهة شرقية، والمطاعم الأوزبكية تتنافس فى الجودة والأسعار، وجدتُ ضالتى واخترتُ مطعماً بناءً على التقييمات وصور الزوار.

وصلتُ وبدأتُ أنتقي، شوربة لحم ضأن مع القليل من الخضر والأعشاب، "مانتي" لا يمكن أن تفوته عندما تدخل مطعماً أوزبكيا، والملك هو أرز "بلاف" المطهو بالثوم ولحم الضأن والجزر والزبيب إلى درجة النضج التام، لكن أكولاً مثلى لم يكتف، فزِدتُ سيخاً من قطع خاصرة الضأن المشوى على الفحم، وختمتها بالشاى الأخضر. بعض الخيارات الصحية ومحاولة إذابة نصف كيلو من الدهون التى تناولتها، مفيد لنفسيتى كيلا أشعر بالذنب...!

 
اكلات بروسيا (2)
 
 
اكلات بروسيا (3)
 

أثناء تدخينى خارج المطعم، مرَّتْ مجموعة من الشباب المصرى أمام المطعم الأوزبكي، يحاولون اكتشاف ما هنالك، حاولتُ نصحهم بأنه جيد جداً، لكننى لا أعلم لماذا أحياناً نتخذ سلوكيات دفاعية تجاه بعضنا خلال السفر، فالشباب الذى كان متردداً فى دخول المطعم حسم أمره بـ "لا" بعدما نصحتهم بالمكان...!

امتلأتْ المعدة وثقلت الخطوات، أصبحتُ أجـرُّ نفسى جراً، أكبر مجهود أستطيعُ فعله هو طبع اسم الفندق فى تطبيق التاكسى المحلي، واتنظاره ليحلمنى للسرير، أجلسُ فى المقعد الخلفى لسيارة كورية الصنع منتشرة فى مصر وأنا أفكرُ فى عدد السلالم التى سأجاهد لأصعدها حتى أصل للسرير، آه نسيت هناك ممرات طويلة متعرجة بعد السلالم، لماذا لم يمنحنى الفندق غرفة قريبة من الدرج، أنا مُتعَـب، بل مُنهَـك، لم تتجاوز الشعيرات البيضاء فى لحيتى 20، لكننى أشعر بأننى تجاوزت السبعين فى هذه اللحظة، كيف مشيتُ اليوم كل هذه المسافة، لماذا أفعل هذا بنفسي، أتذكرُ الطعام والعجوز بائعة الكرز والمخبوزات التى سأتناولها فى إفطار الغد فأتحمَّس قليلاً، لكن الألم فى قدمى ينكِّل برأسي، ويوقظنى من الأحلام الجميلة إلى واقع مُرتبك، حان وقت البحث عن مساج مناسب للقدمين.

مُستلقياً على سرير غرفتى الفندقية، التلفزيون المسطح المثبت على الحائط يبث برنامجاً رياضيا باللغة الروسية، يُقيم المنتخب المصرى الذى سيواجه نظيره الروسى غداً، وبالطبع صلاح هو محور البرنامج، أبحثُ عن مركز مساج للقدمين، أبحثُ بدقة، فالخطأ قد يقودنى لمركز بيع المتعة، وجُل ما أريده أن تخفَّ ألسنة اللهب المشتعلة من الألم فى قدمَيّ، آثار ذلك الكسر فى الكاحل، و4 عمليات جراحية تعاقبنى أشد عقاب على السير لمدة 6 ساعات تقريباً، أخيراً أجدُ مركزاً تايلاندياً وتقييمات الزوار تؤكد أنه مساج وليس واجهة لأنشطة أخرى، أهاتفهم لأتأكد من ساعات العمل، فتجيبنى سيدة روسية بأنه يمكننى المجيء الآن فأقوم بالحجز.

مريح، هادئ، نظيف، امرأة تايلاندية فى منتصف الخمسين، ستقوم بتدليك قدمَى ساعة كاملة، أستلقى على سرير المساج، رائحة العطور الآسيوية المنبعثة من مكان ما، موسيقى تجعل فتح جفونك بمثابة رفع 180 كجم، ثم.خخخخخخ عالية انبعثتْ من مكان ما بين حلقى وأنفي، انبعثتْ بصوت أفاقنى من غفوة كنتُ فيها أسيرُ فى شوارع بانكوك أتفحص الأفيال، وجدتُ "الماسوس" التايلاندية تخفى ضحكتها بيد، وتحاولُ أن تكمل عملها بالأخرى، أعتذرُ محرجاً من صوت شخيرى الذى أيقظني، فتشير لى أنه لا مشكلة.

انتهت الساعة، من فرط الراحة التى شعرتُ بها، لم أرغب فى ارتداء الجوارب والحذاء، شرحتُ للمديرة الروسية ويبدو أنها صاحبة المركز، فابتسمت، وأخرجت لى خُفاً أبيض خفيفاً من القماش، كالمستخدم فى الفنادق لكنه رقيق جداً، أعتقدُ أنه من الذى ترتديه السيدات، عقب طلاء الأظافر فى صالونات التجميل...!

خطوات قليلة قطعتها من باب المركز للتاكسي، لكن الجو كان بارداً حقاً، وقدماى شعرتا بالبرد أكثر من أى جزء آخر فى جسدي، لكنه كان منعشاً جداً بعد تدليك لمدة ساعة بالزيوت الآسيوية العطرية، لا أذكـرُ شيئاً من أحلام تلك الليلة، كان نوماً عميقاً جداً ولذيذاً.

 


اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر