أتابع أعمال الدكتور مدحت العدل، صديقي المستنير وعاشق الفن، الذي يدرك ماهيته في تنمية الوعي لمصر التي نعشقها ونعرف قدرها، وقد شاهدت معظم أعماله، وأعرف مدى اهتمامه بالمسرح، فانبهرت بعرض "كوكو شانيل" مع المبدعة شريهان، وزاد يقيني بعبقريته واختياراته بعد مشاهدة "شارلي"، ذلك العمل الميوزيكال الضخم المتكامل العناصر، المبهر، الذي يؤكد حقيقة أعرفها، وهي أن المسرح هو سيد الفنون وأحد روافد ذاكرة الإبداع.
والأهم أن المسرح الغنائي (الميوزيكال) هو حلم لكل من يعمل بالمسرح، وخاصة الكاتب والموسيقار، وحبذا لو كان يمتلك الحلم والاستنارة والمعارف التي تجعله مدركًا لأهمية إضافة اللحن والتنغيم. فمنذ ترانيم الكنائس ومقامات الأذان وتلاوة القرآن وترتيله وصولًا إلى التواشيح، أدرك المبدعون أن النغم يضيف بُعدًا شديد التأثير على الكلمات فتخترق وجدان الجمهور باللحن والإيقاع.
ومنذ أوبرا "عايدة" في دار الأوبرا المصرية لفردي عام 1871، أدرك عشاق فنون المسرح تأثير المسرح الغنائي. فكان حلم سلامة حجازي ويعقوب صنوع، وبدأت محاولات لم تثمر إلا عن شكل "الأوبريت" الغنائي، وهو عرض مسرحي يتخلله بعض الأغاني. ثم جاء سيد درويش وقدم مسرحًا غنائيًا شعبيًا، ومن بعده محاولات قدمها زكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب وبليغ حمدي، لكننا لم نصل إلى العرض الميوزيكال كما يُقدّم في مسارح لندن مثل: Chess – Miss Saigon – The Phantom of the Opera.
ورغم حلم سيد درويش وإدراكه أهمية المسرح الغنائي بعد عودته من سوريا، وقراره دراسة علوم الموسيقى من هارموني وكونتربوينت، إلا أن وفاته حالت دون تحقيق حلمه، فاكتفى بمحاولات غنائية استعراضية أضافت لإبداعه ما يعرفه المتخصصون. ثم جاء حلم تحقيق المسرح الميوزيكال بعد عودة محمد نوح من أمريكا ودراسة علوم الموسيقى في جامعة ستانفورد. فكتب موسيقى "ليلى يا ليلى" من أشعار صلاح جاهين، وأنتجها جلال الشرقاوي باسم "انقلاب". نجح العرض وأعاد نوعًا مختلفًا من جمهور المسرح الحقيقي، ثم وقع خلاف بين بطل العرض والمخرج، فتوقف حلم صلاح جاهين، ومحمد نوح، وجلال الشرقاوي.
وبدعوة كريمة من صديقي المبدع د. مدحت العدل، ذهبت إلى مشاهدة عرض "أم كلثوم". ومن الخطوات الأولى داخل المسرح كانت براعة الاستهلال واضحة، فخامة لم أعتدها ولم أشاهدها إلا في المسرح الإنجليزي، ثم بدأ العرض الذي فاق كل توقعاتي، وجلست أتابع منذ ظهور "أم كلثوم" بالهولوجرام؛ إبهار ممتع، حضور "الست ثومة" سيدة الغناء.
وحدث ما أعرفه: عظمة الإرسال يقابلها عظمة الاستقبال، ما هذا الجمهور الذي أخرجه هذا العرض الماتع المتكامل العناصر؟ وكيف يستقبل الغناء كعملية تطهير للوعي واستفزازه؟ تابعت متى يصفق الجمهور ومتى ينبهر ويدرك جماليات العرض من ديكور، وسينوغرافيا، وموسيقى. لقد شاهدت قيمة الاحتراف والمهنية في كل مفردات العرض: موسيقى، وغرافيك، وملابس للمبدعة ريم العدل، وراقصين، وإضاءة موظفة لتأكيد جماليات العرض. ثم عظمة الأصوات واختيارات عبقرية لتسكين الأدوار، وأداء يقابله تصفيق وإعجاب من جمهور واعٍ أبحث عنه كثيرًا؛ إنه موجود في مسرح "أم كلثوم"، عرض الكمال والإتقان.
تابعت الجمهور واستمتعت، مدركًا للقيمة الكبرى المضافة، وهي اختيار المبدع د. مدحت العدل للموضوع وتحويله من دراما حياتية شاهدها الجمهور من قبل إلى دراما ميوزيكال قدمت "أم كلثوم" وكتيبة النجاح حولها بعبقرية مبدع أعرف قدره. فالإيقاع، وهو العمود الفقري للعمل، وضع أم كلثوم في إيقاع يعيشه الشباب الآن، واختيار المخرج والأبطال الشباب جعل الماضي يمتزج بالحاضر بمفردات تقنيات الحداثة والإبهار، والخلفيات والشاشات، في مزج بين الماضي والحاضر، مدركًا لذائقة الجيل الحالي.المخرج المبدع أحمد فؤاد يدرك أنه يقدم عرضًا لنجمة خرجت من بطن الأرض المصرية وارتفعت بموهبتها إلى عنان السماء. امتزج الماضي بنجوم الشباب والراقصين كالفراشات المحلّقة، فالموضوع عن فنانة وُلدت في أواخر القرن التاسع عشر وسجلت اسمها بحروف من ذهب في القرن العشرين. قدم لنا المبدع د. مدحت إبهارًا بسخاء.
أبطال النجاح: أحمد رامي، وعبد الوهاب، والقصبجي، والسنباطي، وبليغ حمدي، ظهروا في شخصيات من لحم ودم، تكره وتحب وتتغير وتُهزم، وتلك في ذاتها عبقرية الكتابة، ولتأكيد ذلك قدم المشاهد بالإسناد إلى ما نشرته الصحافة، ليُعرض أمام الجمهور على الشاشة، فنرى سقوط فيلم "عايدة" وانعكاس ذلك على أم كلثوم، وكيف كان التنافس مع عبد الوهاب، وكيف يتهم السنباطي موسيقى عبد الوهاب بأنها "راقصة". عرض متعة بصرية وإبهار وتماس مع حقيقة الفنان وطموحه. فمنذ البداية وهي طفلة تغني في طماي الزهايرة ثم تصل القاهرة، نتابع معاناة منيرة المهدية من نجاح الست ثومة، والمشهد العبقري لسقوط منيرة المهدية في حفرة "الكمبوشة". عبقرية من المخرج الشاب المدرك لجماليات المسرح بوعي، وكيف عبر عن ذلك في مشهد يمزج بين أم كلثوم ومنيرة المهدية مع حركة دوران الديكور، واستخدام كل مفردات الإبداع ليصل المشهد إلى الكمال الإبداعي، مستدعيًا التصفيق من جمهور أعرف أنه لا يصفق إلا لما يستحق.
قدم د. مدحت للغناء المصري، بحرفية الجوهرجي، مجموعة من الشباب في هذا العرض، هم نجوم الأيام القادمة، ليؤكد أن مصر لم تنضب. وكما جاءت أم كلثوم من طماي الزهايرة، فهؤلاء الشباب يؤكدون خصوبة الإبداع المصري. فأبدعت "أسماء الجمل" بصوتها البديع، و"ليديا لوتشيانو" بعبقرية في دور منيرة المهدية، وكذلك "ملك أحمد" الطفلة في دور أم كلثوم، وأيضًا "سعيد سلمان" في دور رامي، و"أحمد الحجار" في دور محمد عبد الوهاب، ثم "هاني عبد الناصر" في دور رياض السنباطي
استمتعت والجمهور بالغناء والأداء وبكلمات الأغاني للكبار: بيرم التونسي، ورباعيات الخيام، وأحمد رامي، مع إبداعات الشاعر الجهبذ د. مدحت العدل، وعظمة "الأطلال" لإبراهيم ناجي.
إنها ليلة اغتسلت فيها بالإبداع، واستمتعت، وأيقنت أن مصر والفن والمسرح بخير. فقد حقق د. مدحت حلم المسرح الميوزيكال، حلم الكبار. وأحمد ربي أني شهدته متحققًا. شكرًا لكل من ساهم في تلك السنفونية الإبداعية "أم كلثوم". فقد شعرت أن جمهور العرض هم أحفاد جمهور الست ثومة الذي أشاهده في حفلاتها المسجلة. وأتساءل: أين هم! مبروك لمصر. تنطلق وتستحق.