حسام داغر يكتب: أبى العزيز شكرا

حسام داغر حسام داغر
 
نهضت من السرير أثناء نومي كالعادة، واتجهت إلى المطبخ لأشرب.. وفي الطريق وجدته يجلس إلى السفرة يتناول إفطاره كعادته قبل توجهه إلى عمله.. صدمت ووقفت شاخصاً لفترة وقلت له "كيف أنت جالس هنا؟".. نظر لي بطيبته المعهودة وقال "اجلس افطر معي".. فقلت "كيف" مرة أخرى.. "ليس من المفترض أن تكون هنا".. نظر بابتسامة وقال "لماذا؟ أنا هنا وسأظل هنا".
 
نظرت فجأة لأجد باب البلكونة مفتوحا، وكنا نسكن بجوار البحر في الكويت، والرطوبة في هذه البلاد صعبة جداً، بخاصة لمن يعانى من داء الرئة، وجريت لأغلق الباب وأنا أقول له "كيف تترك الباب مفتوحا وأنت لا تحتمل الرطوبة وتسبب لك ضيق التنفس؟"، فقال "لم أعد أشتكي من شيء يا حسام أنا بخير".
 
وهنا انتبهت لأن شكله لم يعد مثل آخر مرة رأيته فيها، بل عاد كسابق عهده في أيام شبابه، بينما كنت أنا صغيرا في السن، وهنا أدركت أني في موقف غير طبيعي، وقلت له وأنا أنظر وأتأمل في وجهه "ولكنك مت وأنا رأيت ذلك.. بل ورأيت جواز السفر الذي يحمل صورتك مكتوب عليه صاحب هذا الجواز ميت.. بل وذهبت معهم لأحضر الجثمان من المطار وقمت بتوديعك بنفسي"، وهنا نظر لي كثيراً وقال "المهم أني بخير".
 
استيقظت من النوم لأكتشف أني في سريري أنظر إلى سقف الغرفة وأتصبب عرقا، إنه الحلم ذاته يعود مراراً و تكراراً، أقوم من سريري وأتجه للخارج وأنا أنظر إلى السفرة والكرسي الذي كان يجلس عليه، وأبتسم لمعرفتي أنه في خير حال وبمكان آمن.
 
إنه أبي.. لم أشبع منه باللفظ الدارج، فلقد رحل عن عالمنا في سن الخمسين، وكنت صغيراً، ما زلت أذكر ذكرياتي البسيطة معه وأنا صغير، مثل أول يوم تركني في المدرسة وحالة الغضب الشديده التي انتابتني وهو قادم ليأخذني، عندما ذهبت بالخطأ لركوب أحد "الباصات" مع اني كنت في نظام "الويتينج" أي أن أحد الأبوين يأتي لاستلامي، لكني لم أكن أدرك شيئا وقتها، وذهبت مع صديقي في الفصل لركوب "الباص"، قبل أن تكتشف المشرفة من لون الكارنيه المعلق على صدري أني أحد الأطفال التائهين، وتعود بي إلى غرفة "الويتينج" لأجد أبي ينظر يميناً وشمالاً وهو يبحث عني في لهفة، فأهرع إليه باكياً وأخبره أنه شرير، واتذكره وهو يضحك و يتفادي لكماتي الصغيرة وقتها، وهو الذي كان ملاكماً أيام دراسته في كليه الهندسة.
 
ما زلت أذكر أنه رغم مكوثه في الكويت 30 عاما من عمره، لم يكن يتكلم عن سنين الغربة مطلقاً، بل كان أغلب حديثه عن فترة خدمته في الجيش أيام الاستنزاف وحرب أكتوبر، كما لو أن فترة عمله بالخارج ليس بها شيء يذكر ومرت سريعاً.. كان ضمن رجال الضفادع البشرية في الوحدات الخاصة البحرية، وكانت أسفل قدمه علامة نتيجة إصابته من أخطبوط التف خلف رجله في أثناء التدريبات، فقطعه للنجاة بحياته، وكان دائم الحديث عن ذكرياته في الثغرة، وكيف نجا منها هو وأصدقائه في الكتيبة، ولا أنسى اليوم الذي شاهد فيه قائده السابق في الجيش بأحد الأماكن بالكويت ليقف فرحاً ويتجه له ليؤدي التحية العسكرية ويذكره بنفسه وأنه قد خدم معه في أثناء الحرب، لا زلت أتذكر سعادته حين عودته إلينا وابتسامته التي لم تفارق وجهه لآخر اليوم.
 
كنت أحب الذهاب معه إلى مقر العمل وسط المشاريع التي كان يقوم بتنفيذها، ورؤية علاقته بأصدقائه وحب الناس له، وذلك علمني كثيراً -بشكل غير مباشر- أهمية البشاشة في العمل وعلاقة الإنسان بربه، وانعكاس ذلك على حياته، فقد كان يحب الصلاة كثيراً ويأخذني معه للمسجد، وخاصة في صلاة التراويح التي أغلب ذكرياتي معه خلالها، وسبحان الله فقد لاقى ربه في شهر رمضان، وصلينا عليه التراويح وسط بكاء المصليين ودعوة الإمام بأن يجعل خاتمتنا مثله.
 
لا زلت أذكر آخر مرة رأيت فيها وجهه من خلف زجاج المطار الداكن الذي يسمح لنا برؤية المودعين، وكنت أبكي بشدة لأني لم أكن أريد الرحيل، لكني كنت مشارك بمسرحية في منتخب الجامعة وطلبوا مني العودة إلى مصر للسفر معهم للمغرب، وهو أصر على أن أرحل رغم صراعه مع المرض، لأنه أراد لي أن أسافر وأشاهد العالم، وألا يحرمني من تحقيق حلمي وهو التمثيل.. ولا زلت اذكر سعادته وهو يضع شريط الفيديو وعليه مسرحيتي في الجامعة ليريها لأصدقائه في أثناء تناولهم الغداء في بيتنا، ويقول لي امامهم بفرحة "إزاي بتعرف تمثل.. مين علمك ده؟"، ذكريات كثيرة جمعتني به، لكني اكتشفت أني لا أملك صورة واحدة معه، من الممكن أن يكون ذلك بسبب عدم توقعي رحيله السريع، أو أني كنت صغيرا لم أدرك اهميةً ذلك، ولكني دوماً أشاهده في الأحلام.
 
آخر مرة رأيته يحمل طفلاً رضيعاً ويجلس على كرسي أمام البحر، فسألته "من هذا؟"، ليرد "حسام"، وعندما استيقظت أخبرت أمي بالحلم وبكت بشدة، فقلت لها "اهدي مالك يا أمي؟"، قالت إنها أنجبت قبلي طفلا لم يكتب له الحياة وأسموه حسام، وأن والدي أخده ودفنه في مراسم حقيقية، وأنها الآن علمت ان والدي اجتمع به في العالم الآخر.. لم أكن أعرف ذلك وبكيت وأنا سعيد لأجله، وتذكرت أني يوم وفاته ارسلت له رسالة على الهاتف لأخبره أني أحبه حباً شديداً، وعندما توفاه الله في نفس اليوم كان وحيداً في مستشفى بالكويت، وأحضروه إلى مصر للدفن ومعه متعلقاته، لأكتشف بعد فتره أنه فتح رسالتي وأنها آخر ما قرأه قبل وفاته بدقائق.
 
رحمة الله عليك يا أبي.. شهر ديسمبر أصبح لا يذكرني بشيء بقدر رحيلك عنا في أيامه.. الكل يقول لي إنهم يرونني فيك لشدة الشبه بيني وبينك.. وأتمني من الله أن يجمعنا سوياً في جناته التي وعدنا بها.. سأشاهدك بها تجلس أمام البحر بالساعات تمارس هوايتك الوحيدة ممسكاً بالسنارة كما عودتني في طفولتي.. وأنا أجري عليك من الخلف وأجلس بجانبك وأنت تنظر إلي بدفء وحنان.
 
أحبك يا أبي..
 
وللحديث بقية..

اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر