في مثل هذا اليوم وُلد أحد أعمدة الإخراج الدرامي في مصر والعالم العربي، المخرج الكبير يحيى العلمي (1941 – 2002)، الذي لم يكن مجرد صانع صور أو موجه كاميرا، بل كان معماريًا للدراما، ومنسقًا للوجدان الجمعي، وصوتًا مخلصًا لتراب هذا الوطن، وهو يحكي تاريخه عبر فن الصورة.
لم يكن العلمي مخرجًا عاديًا، بل صاحب مشروع فني متكامل، ارتكز على الصدق الدرامي، والعمق النفسي، والرؤية الإنسانية التي تمزج بين البطولات الكبرى وتفاصيل الحياة اليومية. ويكاد يُجمع النقاد والمتخصصون أن أي محاولة لتناول دراما الجاسوسية في مصر، لا تكتمل دون التوقف عند تجربة يحيى العلمي، الذي استطاع أن يقدّم قصص المخابرات المصرية ليس كحكايات استعراضية، بل كأعمال درامية تمس القلب والعقل.
في "دموع في عيون وقحة"، نقل لنا حكاية "جمعة الشوان" بواقعية فنية راقية، راسمًا بطلاً إنسانيًا بكل ما يحمله من ألم وولاء وشك ويقين. أما في "رأفت الهجان"، فاستطاع العلمي أن يحوّل ملفًا أمنيًا إلى ملحمة درامية عن الهوية والانتماء والاغتراب، فكان الإخراج هنا أشبه بقيادة أوركسترا درامية كبرى، أخرج من الممثل الكبير محمود عبد العزيز أداءً خُلد في ذاكرة الجمهور.
لكن يحيى العلمي لم يُحصر نفسه في نوع بعينه، بل تعددت ملامح تجربته الفنية، فكان مخرجًا للمجتمع، لقضاياه، لروحه القلقة الباحثة عن معنى. ففي "الأيام" المأخوذة عن سيرة طه حسين، تجلى علميُّ الأدب في لغة الصورة، كما منح رواية "لا" لمصطفى أمين نفسًا بصريًا يفيض حيوية. أما في "نصف ربيع الآخر" و"الزيني بركات"، فقد حملت عدسته نبرة شاعرية وغضبًا دفينًا، ليُقدّم صورة صادقة لتحولات الإنسان المصري في مواجهة القمع والخوف والمقاومة.
على مدار أكثر من ثلاثين فيلمًا سينمائيًا، منها "تزوير في أوراق رسمية" و"طائر الليل الحزين"، حافظ العلمي على هدوئه الفني، بعيدًا عن ضجيج السوق، حافرًا لغته الخاصة، لا تستجدي الصرعة، ولا تستعرض تقنيات، بل تعتمد على الحفر في المعنى، والإضاءة الداخلية للنص والشخصية.
كان العلمي صوتًا في زمن آمن بأن التلفزيون ليس مجرد وسيلة ترفيه، بل أداة وعي، وساحة لتشكيل الإنسان المصري والعربي فكريًا ووجدانيًا. جاء من جيل آمن بالثقافة، بالفن المسؤول، بالفن الذي لا يهادن، ولا يبيع ضميره.
وفي ذكرى ميلاده، لا نملك إلا أن نقف أمام ميراثه الفني بعين التقدير، لا كأعمال تُعرض وتُنسى، بل كمعايير يُقاس بها ما يُنتج اليوم. فكل دراما جاسوسية تُقارن بـ"دموع في عيون وقحة"، وكل محاولة لرصد التحولات النفسية والوطنية تُحيلنا لـ"رأفت الهجان"، وكل إخلاص في الصورة والرسالة، يذكّرنا أن يحيى العلمي كان مدرسة كاملة... لا تتكرر.