محمد الروبي يكتب : زياد الرحباني... الابن السري لسيد درويش

محمد الروبي محمد الروبي
 
يبدو أن موت زياد الرحباني المفاجئ قد دفعني للغوص أعمق في عالمه الذي أحببته.
أيّامٌ وليالٍ مضت منذ صفَعني خبر رحيله، وأنا أدور في فلك أعماله، أستمع إليها بتأملٍ أشدّ، وأتذوّق، ببطءٍ وشغف، ما كنت أمرّ عليه مرورًا عابرًا.
 
منذ سنوات، كان يراودني إحساسٌ بأن موسيقى زياد تحمل من الروح المصرية أكثر مما يُظَن. لكنني لم أقف طويلًا أمام هذا الإحساس لأختبر صحّته، واكتفيت بالاستمتاع بما أبدع، أدندن ما يروق لي من ألحان وكلمات، ثم أمضي.
 
لكنّه الموت... هو من فتح لي الباب لمزيد من التذوّق، ثم لمزيد من التأمل.
 
 
 
 نبرة الهامش لا تُخطئها الأذن
ليست المسألة فقط في التشابه اللحني أو التكنيك، بل في "النبرة"، تلك النغمة الخفية التي تعكس موقع الفنان من الحياة.
 
زياد، مثل سيد درويش، لم يكن يقف على منصات النخبة ليغنّي من فوق، بل اختار أن يكون بين الناس، يسير معهم، يضحك، ويشتم، ويكتئب.
 
حين تستمع إلى "بما إنو"، تلحظ كيف تُبنى الجملة الموسيقية على البساطة، بلا زينة، بلا استعراض، كما كانت "شد الحزام على وسطك ".
 
وفي أغنية "سألوني الناس"، التي قدّمها زياد وهو في السابعة عشرة، تجد أولى بوادر هذه الروح "الدرويشية" التي تمثّلت في لحن بسيط حدّ الوجع، متقشّف، ينبع من الجرح لا من الذهن.
 
تلك التنهيدة اللحنية في "سألوني الناس" لا تختلف كثيرًا عن "أنا هويت وانتهيت" لسيد درويش، وكأن زياد، دون أن يدري، فتح بابًا سريًا إلى ضفة الشيخ سيد، حيث الكلمة تخجل من زينتها، واللحن يفيض من القلب لا من ورقة النوتة.
 
الأوتار في موسيقى زياد ليست للزخرفة، بل للبكاء. والبيانو عنده ليس "غربيًا" كما يُظن، بل آلة شكوى، تُشبه العود في يد سيد درويش.
 
وفي " شو ها الأيام"، كما في " الحلوة قامت تعجن في الفجرية"، لا تشعر أنك تسمع لحنًا بقدر ما تسمع حكاية.
 
صوت الناس في الميناء، في الورش، في السطوح. لحن يمشي على الأرض، لا يطير في الأبراج.
في الأغنيتين، لا بحث عن جمالٍ مصطنع، بل عن صدقٍ فجّ.
فيهما لحنٌ بسيط كأنه من صنع الحياة نفسها، يخرج من فم البواب أو البائعة، لا من كواليس دار الأوبرا.
بل إن زياد في هذه الأغنية تحديدا يقولها بوضوح ( أنا أبن سيد درويش) وخاصة  في مقطع " حلوة دي .. حلوة دي .. حلوة دي تعجن في الفجرية" لا كلمات فقط ، بل تقطيعا لحنيا يذكرك بالأصل الدرويشي وإن كان بأداء أكثر سخرية. و كأن زياد يمدّ يده من شارع الحمرا إلى كوم الدكة في الإسكندرية، ليعيد وصل ما انقطع..
 
 
 
امتداد لمشروع الفن المقاوم
 
زياد لم يكن يومًا فنانًا "محايدًا"، كما لم يكن سيد درويش من قبله.
 
الفنانان اختارا الانحياز، لا للسلطة ولا للأيديولوجيا، بل للناس.
 
وسخّرا فنّهما للقول: نحن هنا. نحن تعبانون، مضحكون، نحب ونشتم ونحلم، ولسنا موضوعًا للشفقة أو التوجيه.
 
سيد درويش لحّن للعمال والطلبة والحمالين وبائعات اللبن.
وزياد كتب ولحّن عن الراتب، والحرب، والسجن، والمهانة، ومصير المثقفين الذين "باعوا كل شي".
استدعى الشخصيات المهمشة (السائق، البوّاب، الفقير، الكادح، الحشّاش) وجعلهم يتكلمون بلغتهم، ويضحكون بمرارتهم، ويغنّون على طريقتهم.
حين تسمع " صمدوا وغلبوا " أو "بالنسبة لبكرا شو"، لا تسمع موقفًا سياسيًا تقليديًا، بل ترى فنانًا يحاول أن يُمسك بتلك المسافة المتوترة بين المواطن والنظام، بين الحلم العربي والواقع الكارثي.
تمامًا كما كان سيد درويش يلتقط قهر الناس في زمن الاحتلال، ويحوّله إلى زجل وأهازيج تهزّ الوجدان ولا تعِظ.
 
في المسرح.. الأغنية حياة
 
من لا يعرف مسرحيات زياد الرحباني، يفوته نصف تجربته.
لم يكن المسرح عنده مجرّد وسيلة لإلقاء الأغاني، بل كان "البيئة الأصلية" التي تتنفّس فيها موسيقاه وكلماته بكل صدقها، وفوضاها، وسخريتها السوداء.
 
المسرح كان بالنسبة إليه مرآةً يرى فيها كل شيء: بيروت، الطائفية، الحرب، الانحطاط الثقافي، الانتهازية السياسية، خيبة اليسار، وحتى الحب...
 
كان هشًا، مهدّدًا، مختلطًا بالخذلان.
ولم تكن هذه الأعمال تحتاج إلى ديكورات فخمة أو تقنيات معقّدة، بل كانت تعتمد على "الحالة":
على الممثل الذي يشبه الجار، والكلمة التي تشبه الشتيمة، والنكتة التي تؤلم أكثر مما تُضحك.
في كل مشهد تقريبًا، كانت هناك لحظة يتحوّل فيها الحديث العابر إلى "مونولوج" داخلي.
إنه المسرح نفسه الذي كان يحلم به سيد درويش: أن يصبح الفن مرآةً للناس، لا أبّهةً للبلاط.
أن يُقال كل ما لا يُقال. أن نضحك كي لا نبكي، ونغني كي لا نموت صمتًا.
 
الاعتراف بـ"الشرش" المصري
 
العلاقة بين زياد وسيد درويش ستتأكد لي وأنا أعاود مشاهدة لقائه مع منى الشاذلي في برنامجها القديم (جملة مفيدة).
هناك، وعلى طريقته الساخرة الجادّة، قال زياد إنه هو من أقنع والدته فيروز بغناء "زوروني كل سنة مرة"، أغنية الشيخ سيد التي لم يكن يجرؤ كثيرون على الاقتراب منها.ثم اقتربوا إلى حد التبجح بعد أن فتحت فيروز الباب العتيق.
لم يكن الأمر – في رأيي – مجرّد اقتراح غنائي، بل كان إعلان ولاء غير معلن.
أن تحمل فيروز، بكل رمزيتها، أغنيةً من أغاني البسطاء المصريين، وأن تكون تلك الأغنية بصوتها ـ وبإيعاز من ابنها زياد ـ دليلًا على جسرٍ فنيّ يربط المدرسة الرحبانية بالمدرسة الشعبية المصرية.
بل إنّ زياد ذكر في اللقاء نفسه أن الأب، عاصي الرحباني، وهو الأكثر درايةً بالطبائع والنغمات، كان يمازحه قائلًا: "إنت فيك شرش مصري".
هذا "الشرش" – العِرق باللبناني – لم يكن مجرّد نكتة عائلية، بل مفتاح لفهم الخيط الذي يشدّ زياد إلى الضفّة الأخرى من النهر، حيث يجلس الشيخ سيد، ويمدّ له لحنًا طويلًا من بين الأزقّة... ويبتسم.
أخيرا أقول :
لا يمكن أن نُلغي النسب الفني بين زياد وعاصي، لكن لا يمكن أن نغفل الرابط الروحي بين زياد وسيد درويش.
فكلاهما تمرّد، وغنّى للشارع، وسخر من الطبقات العليا.
كلاهما غنّى الحبّ، والخذلان، والفقر، واللهجة المحكية، واحتفى بالحقيقة، حتى لو كانت قاسية.
ولعلّ زياد، في لاوعيه، أدرك أن سيد درويش مات مبكرًا... فقرّر أن يمدّ في عمره، ويُكمل الطريق.
فكان... ابنه الذي لم يلده.
 
 

اضف تعليق
لا توجد تعليقات على الخبر